يوم المعاش

      يوم المعاش

                                   (بقـلـمي)

        ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

(1)

  وقف بباب داره يستقبل الساعات الأولى من النهار. الساعة لم تدق الثامنة بعد. يراقب عقرب الدقائق المتجه نحو العلامة الخامسة والخمسين، وهى المدة الكافية لقطع المسافة إلى عمله كموظف بالإدارة التعليمية. مع استكمال العقرب لدورته كانت أولى خطواته وأولى سرحاته، وكأنه انتقل بالكلية إلى عالم غير هذا العالم الذي عايشه علي امتداد الستين سنة الماضية، فهو اليوم يكمل عامه الستين بالتمام والكمال بحسب شهادة الميلاد كمستند رسمي معترف به. هو لم يتنبه إلى حمارة الحاج احمد طبق ولا إلى جواميسه وبقراته رغم أنها لم تترك من عرض الشارع سوى مسافة ضيقة جدا لا تزيد عن نصف المتر، وهى تسمح بعبور المارة وهم يحكون ظهورهم بالحائط على الجانب الآخر لنهر الشارع، في هذا النهار لم تسأله أم صباح عن الساعة كعادتها. قالت في نفسها: باين عليه مشغول واللا الهم راكبه النهار ده. مراته مدوخاه. يا بنت سيبيه في حاله.. من بين العمارات والدور المختلفة الأشكال والألوان والمتعددة الأحجام برز إلى الشارع الكبير. شارع الإدارة.

    الطقس لا بأس به رغم البقع السحابية البيضاء المتناثرة تزين صفحة السماء، تتلاحق أحيانا فتمسك بتلابيب بعضها لوقت قصير، وسرعان ما تتفرق ثم تتبدد وتتلاشي في الفضاء. الهواء ناعم طري، واضح أنه يتهيأ لاستقبال يوم صحو، أو يمهد للربيع الصادق، مـا أجملك يا شهـر مارس بطـراوتك وروائحـك العطرية   

 (2)

البديعة وأزهارك المتفتحة، فتنبئنا بالوفرة والنماء والزرع الأخضر وينعه.   

   

  بتثاقل وعلى غير العادة سار يستقبل يومه بكومة هائلة من الذكريات  التي أثقلت رأسه فجعلته مائلا إلى الأمام، فمشى مطأطأ الرأس وعيناه في الأرض غير حافل بمن يمر أو تمرق، وكأن الدنيا قد خلت إلا منه أو صارت عدما. لم ينتبه إلى الأستاذ فتحي الغنيمى وهو يلقي عليه بتحية الصباح، فظن به ظن السوء. كشح عنه بوجهه إذ تعود أن يصافحه ويتحدث معه لفترة وجيزة تتناسب وموعد العمل. هو لا يعرف كيف هجمت عليه كل تلك الذكريات لتفرض نفسها عليه وتغلبه، فجاءت مشيته كمسطول من أثر الحشيش أو الخمر. كأنه عائد لتوه منهيا سهرته الحمراء في غرزة أو في حانة. دفعة واحدة تذكر: شجرة دقن الباشا. قهوة عم شبل على النيل. مراكب الصيد. الحارة. الحمارة. الغيط. المريس وشجيرات الطماطم والخيار. خيمة نعيمه عاكف، وساحة العيد والمراجيح وسينما سمعان إلـى أن وجـد نفسـه فـي مواجهة

 (3)

باب الإدارة. وكأن رجليه كانت أكثر منه فطنة وانتباها لمقصده. كانت الساعة الثامنة والنصف إلا دقيقة واحدة. الموظف المنوط به دفتر الحضور والانصراف سمح له بالتوقيع من دون تعليق ولا كلمة اعتراض. كل سنة وحضرتك طيب، ثم وهو يبتسم له: أنت ضيف عزيز علينا النهار ده يا أستاذنا. فشكره. وقع في دفتر الحضور والانصراف. مشى خطوات. انحرف إلى اليسار ليدخل البوابة الرئيسية ثم ارتقى السلم بطريقة آلية. هو في هذا الصباح شارد الذهن. ليس في وعيه. في الردهة الواسعة توقف ثم  دار حول نفسه. هو يعرف كل حجرات المكاتب والأقسام والوحـدات: وحـدة الملفات. وحدة الحسابات وشئـون العاملين وقسم الإحصاء. يعـرف كـل مـن بالمكتب. يعرف أسماءهم وأسماء عائلاتهم وأين يسكن كل واحد منهم. بحفاوة استقبله الموظف. كان بانتظاره: تفضل. وهو يشير إلى المقعد المخصص. جلس من أمامه على الكرسي. اسم حضرتك بالكامل. رباعي. تاريخ التعيين. تاريخ استلام العمل. خللي بالك. البيانات لازم تكون دقيقة. مسؤوليتك. آه. مسؤوليتي. فكر في كل كلمة. في اسمه وتاريخ ميلاده. أما تاريخ تسلمه للعمل فتذكره بعد فترة ليست بالقصيرة. الموظف طويل البال. هو يعرف كل هذه البيانات. قرأها ألف مرة وهو يسجل الجزاءات الموقعة عليه والإجازات باجر وبدون اجر. عارضة واعتيادي ومرضى. كل شيء في الملف حتى اسمه واسم أمه واسم زوجته وأولاده. الموظف ينظر إليه باستغراب. الله يخيبك مدرس هو فيه مدرس ينسى تاريخ استلامه لعمله؟! ثم ابتسم الموظف ابتسامة تنم عن حسرة، وكأنه يسلم أمره لله فيه. أملاه له. الموظف يحفظ تاريخ تسلمه للعمل عن ظهر قلب، راح يراجع البيانات، أو هو(الموظف) قد تظاهر بذلك كعادة الموظفين عندما تسنح لهم الفرصة للتعبير عن مدى أهميتهم أو لإثبات تواجدهم كشخصيات تبع الحكومة. فتح الدرج ثم أغلقه: تاخد سيجارة؟ تفضل.. بلهفة لهفها: يا سلام جاءت في وقتها بالضبط، فتلون هواء المكتب ليصير مزيجا من اللونين: الرمادي والأزرق الخفيف. كما تغيرت الرائحة ليعلنا معا (اللون والرائحة) عن التواجد الذي يمكن الاستغناء عنه بتلك الأجهزة الحديثة، والتي لم تتعلم التدخين بعد، تحت إشراف صبية مليحة لا يتجاوز سنها الأربعة وعشرين عاما. تطلع هو إلى سقف حجرة المكتب ليخترقه ببصره. ظن الموظف انه يبحث في السقف عن شيء ذات قيمة فلم يجد سوى اللمبة الكهربائية التي عادة لا تستخدم إلا في أيام الشتاء الغائمة.

(4)

   انصرف عنه الموظف إلى الدوسيه المفرود من أمامه. لم تكن علاقة سقراط بزوجته طيبة. آه وأنا أيضا. علاقتي بزوجتي ليست على ما يرام. لماذا قبلت؟! آه. تمام. هذا معقول جدا. مثل أي فتاة في العالم. لابد أن تتزوج حتى لا تعيرها صديقاتها بأنها عانس، وشيء خير من لا شيء، وضل راجل ولا ضل حيطة. هـ ء. يعنى أنا حيطة!!؟ هل الزواج فعلا مهم .لازم؟! لحفظ النوع، وهل أنا مسئول عن حفظ النوع؟ سيدنا آدم لم يولد.

الزواج يتوقف عليه مصير البشرية. سأله: حضرتك بـ تشتغل إيه؟ ابتسم ثم ضحك. والد العروسة يعرف الإجابة. يعرف أصله وفصله. مدرس. الموظف يراجع البيانات، والد العروسة غير مهتم ولذلك فهو لم يعلق. هز رأسه: آه.  مدرس ابتدائي. كل مدرس ابتدائي فهو سيئ السمعة. مثل كلمة العلمانية أو الدولة المدنية. جلست تراقبه وتنظر إليه من تحت لتحت لتتفحصه بكل دقة: كان نفسي أتجوز مدرس ثانوي. حظي اسود ومهبب بهباب. والدها يريد التخلص منها ومن بلاويها وبأي ثمن.  وكأنه تذكر فجأة أو يريد تسويق بضاعة تقتنع بها ابنته : آه. آه. رائع. عظيم. مربى. تذكر مربى الجزر. تناول العشاء. قطعة جبن قريش وفول مدمس ورغيف عيش وفحل بصل. تذكر جان جاك روسو. الحمد لله. ليس من المعقول أن يسألني تلميذ في سنة رابعة ابتدائي عن حكاية العقد الاجتماعي. أيوه. لن استخدم العصا، الوزير يفصلني وتبقى فضيحة بجلاجل في التلفزيون. هل يرجع حماي في كلامه أو حتى هي؟؟ يا رب تمر الأيام السوده دى على خير. آه. لو رجعت هي في كلامها!! لو رفضت!؟ لو تقدم لها الآن مدرس ثانوي مثلا؟! ما العمل؟ لن أتكلم مع احد. حذار يا أمي أن تقولين لأحد. لطمت خديها: يا لهوى. يا دى الوكسة! الجواز يا ابني عمره ما كان سر. دا يا ابني يبقى، والعياذ بالله، زنا. أليست من مصلحته أن تتزوج ابنته. فلماذا لا يـدفع هو المهر؟ أنا الرجـل،

(5)

أنا الرجل، والرجل عليه المهر. يا فرحتي. رجل.. واضح انه في تلك الأثناء يشعر بكثير من ضيق؛ لأنه مط بوزه بطريقة تشي بعدم الرضي والارتياح. البنت لا بد وأن تتزوج. عندما تتقدم لخطبة فتاة. أي فتاة. فعليك أن تدعى الفقر والعوز. كن حذرا. لا تدعى الجنون؛ لان الزواج هو الجنون نفسه. هـء . كلنا مجانين.. تلفت من حوله. هو ينظر أمامه. ينظر خلفه. سأل نفسه: أي الطرق الموصلة إلى ... إلى أين إن شاء الله؟؟ الموظف ظنه أبلها أو مسه نوع من الجنون أو قد اختل عقله. تطلع إليه وبكثير من إشفاق: لا حول ولا قوة إلا بالله، وكأنه يريد أن يعرف. سأله: من اخترع قانون الطفو؟ الفصل كله فطس على نفسه من الضحك. نزل ضرب في الولد وهو يصرخ فيه: أنت بـ تضحك على إيه يا ابن الـ .. يا ابن المعفنة. أدرك أن كلمة المعفنة أنسب من الكلمة التي أمسك عنها. ضربه؛ لأنه التلميذ الوحيد الذي لم يضحك. مثل الوزير تماما. اضرب المربوط يخاف السايب. أنكتم التلاميذ في قلوبهم. تحول الفصل إلى سجن. ولا كلمة ولا حس ولا نفس. الناظر اثني عليه في طابور الصباح. عمل معجزة. القهر أنسب وسيلة للتعامل مع شيطنة الأولاد. استقبل يومه كالعادة. ككل يوم. المخلاة معلقة في رقبته كعمله يوم القيامة. سمّع يا حمار. قال له سيدنا في الكتاب ذلك. قفز الحمار ليعبر خرقا في الجدار يدعون أنه نافذة؛ لينجو من الزخمة والفلقة. لعن والده كما لعن أمه. لعن الناس كلهم. سيدنا مده على قدميه، كانت فضيحة. رجلاه مرفوعة لفوق. اللباس كان وسخا جدا. هرب من الكتاب. سب أمه: ابقي اغسلي اللـ... طلع يجرى. خاف يكمل الكلام. انكسف. عملها على نفسه. " التعليم مثل الماء والهواء " سأل نفسه : ماذا كان يعمل طه حسين؟ يعنى كان بـ يشتغل إيه؟أين المدينة الفاضلة؟؟هناك. عند شارون. عند أولمرت

(6)

أو نتنياهو. احتكرها السيد بوش الذي جاء بالاقتراع الحر المباشر ليحتل العراق. صفق له العالم وتظاهر ضده. العالم يا عيني قلبه على العراق. فقرر أن يدمره مثل الصومال وأفغانستان، واختفى الحذاء. أنت عليك الغسالة والستائر والإطباق الميلامين. ألا يكفى الخشب ومقدم الإيجار؟ انقلبت سحنة حميه. ادعاء الفقر لم يفلح. هيصة وزيطة وزمبليطة. كوافير ولمبات حمرا وصفرا وكاميرات تصوير. وشوبش يا حبايب. مبروك يا ابني. الموظف طلب منه أن يوقع على صحة البيانات. أقر أنا... التوقيع. عثرت قدمه بسلم الإدارة. يا فتّاح يا عليم. الله يخرب بيت السجاير عل بيت اللي صنعها على بيت اللي يشتريها تانى. قالت له زوجته ألف نهار مبروك. هي لا تقصد (بالطبع) حكاية مكافأة نهاية الخدمة أو رصيد الإجازات. الأمم الواعية لا تقتل آلهة الأرض فهي تعرف جيدا أين تسكن الشياطين؛ لأنها أرذل منهم. شمعتان وكل واحد قطعة جاتوه وزجاجة مياه غازية وطبق كفته بحاله. امتدت بهم السهرة. قطع مسافة لا بأس بها، تردد قبل أن يسأله : إلى أين أنا ذاهب؟! فقال له: اتجه يسارا ومن الأفضل أن تتجه يمينا ويمكنك أن تتجه ناحية الغرب أو إلى أعلى، فقفز من فوق التبة. كسرت ساقه. تذكر ابن خالته ميمونة  يوم أن سحبوه مثل الكلب إلى المركز. أنت ضربت أمك ليه؟! امرأة شرموطة بنت ستين كلب. المأمور تعجب: انت بـ تشتم أمك يا ابن الوسخة!؟ أنت اللي ابن وسخة وستين وسخة. لم يُعثر له على أي اثر. توفيت خالته ميمونة. لماذا يموت الإنسان؟ لأنه يولد. فلابد وان يموت. الإنسان كائن حي غامض/غرضي، أما الحيوان فهو جماد حي قاصر الغرضية ولذلك فيحل صيده وذبحه، ثم سأل نفسه: هل الله مجرد فكرة؟ لو أن الله مجرد فكرة لسقطت مسألة "القيم" من قاموس الإنسانية، ولا معنى أبدا للضمير الإنساني، فوجود الله هو معامل تصحيح خطأ في كل حالة من حالات الوجود الحاضر. وإذا

(7)

ما اتخذنا من العلم وسيلة لإنكار ذات الله سبحانه وتعالى، فذلك يثبت بالضرورة تعالى ذات العالِم وغروره، وإذا ما اتخذنا من الدين سببا لإنكار العلم، فليس من الدين أن يتحول الدين إلى بوق لنشر الجهل والغباء بين البشر، والعالِم المنكر ليس بآخر عالم على الأرض، وكم من عالم أنكر اللاحق له عليه علمه، والثابت يقينا هو المتغير في ذاته ومن خارجه، والحقيقة في الثابت لا في المتغير أو أنها فيما لا ندركه أو في المسكوت عنه غصبا، والإيمان بوجود الله عز وجل لا ضرر منه، والإنكار لا نفع فيه. ونفرق بين الثابتين.

   واضح الآن أن شخصية مهمة تقوم بزيارة مفاجئة للإدارة. نهض بهرولة من على الكرسي لينخرط في سلك المستقبلين. سأله الأستاذ احمد بدران مدير عام الشؤون القانونية بالمديرية المركزية عن أحواله. بتلعثم وارتباك: عال قوى. بخير. هو لم يلحظ أن الموظفين يستعدون لمغادرة الإدارة. هل للسن حكمه فعلا؟؟ ساقه تؤلمه. نظر بغيظ إلى درجة السلم. الله يلعنك. الحاج صلاح عامل الإدارة انهمك يدلكها له: سليمة إن شاء الله. سليمة.

  كان لها من النهر النصيب الأسد والحظ الأوفر. كما انه (النهر) له نفس النصيب ونفس الحظ من دموعها التي يكفكفها بمائه الطهور. وقد عزم في إصرار أن يغسل أحزانها وآلامها المبرحة، فوقف هناك بعيدا في آخر الدنيا ليحرسها ويرعاها. نهر النيل. فهل هو خليط من ماء المطر ودموع العذارى؟؟

علمني يا نيل الصبر ع الأيام

يمكن يكون يا نيل

(8)

في الصبر دوايا ودواها

 وانا اللي طال ليلى

قاعد على شطك أشكى لك

الهجر والصد والسهد وقسوة الحرمان

حبيبي يا نيل هناك

وانا قاعد هنا وحدى. على شطك اشكي لك

سمّعها صوتي يا نيل. يمكن

في يوم من الأيام يناديها صداه 

 واسعد أنا بلحظة لقاها تشفيني م الآه

آه يا نيل من الهوى والغرام

ما تغسل الجرح ميطك

ولا (حتى) دموعي

تغسله من الألام، ولا هي دواه  

   لم يعترض على تأخرها عن الموعد قرابة الساعة ونصف. قال لها وهو ينظر إلى النهر بمائه التي تلمع تحت ضوء القمر كبحيرة من الفضة يترجرج الماء فيها، وكأنه يؤكد حقيقة :

     ـ لا اعتقد أنهم سيوافقون. فارق السن.

     ـ ولكنني أحبك. السن ليس مشكلة. أنت تعرف أنني لن أتزوج مختار ابن خالتي.

 (9)

   وعاد الكتاب من جديد.. علىّ الطلاق بالتلاتة تتجوز على أم أولادك. أنا من سكة وأنت من سكة. أنا يا ابن الكلب في حكاية الجواز دى مسيحي.

 أما هي فقد اختارت الرحيل ..

   زوجته بانتظاره. تريد أن تشترى اللحم والخضار. يا رب يا جوزى تيجى ومعاك الفلوس. مدت يدها في جيب قميصه. أخذت الفلوس. هي لم تتنبه إلى ساقه المكسورة .هرولت إلى السوق. نزل من على التبة ليستقبل المساحة الصفراء المنبسطة. شعر براحة. جلس على الرملة ليستريح من عناء المشوار. دوى انفجار قنبلة. القيامة قامت. ضحك ثم ابتسم. كانت اللطمة شديدة جدا. وضع كفه على صدغه وراح يتأمل وهو يمد بصره إلى السماء يبحث في الظلام. النجوم تجاهلته. القمر عندما رآه اختفى. راح ينقر بالقلم المسمار على الحجر. آه. نوسه. زوجته تعد الطعام الآن في المطبخ. المبروم والكفتة. الطعام له مذاقه الخاص. الله يخليك يا نوسه. يا رب تخلى نوسه. يا رب تعيش لنا. وكأنه يحدث نفسه: هل تعرفين شيئا عن نوسه؟ بتعجب واستغراب. تستفسر في دهشة: نعم!؟ نوسة؟! ماذا تقول؟! أقول أن أكلك يا زوجتي الحبيبة رائع. عندما يكون البال رائقا فعادة ما يكون للطعام مذاقه الخاص. هو الآن يكتب على الحجر بنفس الكلمات التي كانت تستخدم من آلاف السنين. نفس الكلمات. حروف الجر. أدوات النصب. أسماء الإشارة، هو يدق على الحجر بالقلم المسمار. نوسة بعد أربعة أشهر ستبلغ السادسة عشرة من عمرها. صبية بارعة الجمال. عندما طلبت منها أمها أن ترقص له في الصالة. رقصت نوسة على نغمات أنت عمري. راحت تتمايل بشعرها المتهدل وهو ينظر إليها بدهشة وإعجاب وبحب.

(10)

   كانت تراقبه وتحاصره بعينيها. كم من مرة رقصت نوسه؟! وكم من رجل رقصت له؟! اسمع أما أقول لك. أنا صايعة وافهمها وهى طايره. عينك والبنت. دى لسه صغيره يا راجل يا دبور يا ابو عين زايغه. نوسه نسيت أنها ترقص. أنها طائر العصفور يحلق في السماء. نوسه غرقت. نوسه ماتت. أخذته وطارت إلى عالم آخر. أم نوسة تغيرت ملامحها، شعرت أن أحلامها قد طارت في الهواء. تبخرت: آه يا بنت الكلب يا شرموطة ، فقررت أن تتخلص منها ..

   لم تكن تلك هي المرة الأولى التي يقوم فيها بزيارة "أم نوسه" في دارها  المتواضعة بحارة الطراسين المتاخمة للنهر والتي تكتظ بالفقراء والمعوزين وأرباب الحرف البسيطة وأصحاب العربات الكارو، وقد استأجرت أم نوسه الدار بعد وفاة زوجها من والد السيد عبد العال المنيسى قبل وفاته بسنوات قليلة، أما عبد العال نفسه فقد رحل إلى الإسكندرية بعدما اشترى سيارة نصف نقل بدلا من العربة الكارو، وقد ورث ثروة طيبة عن أبيه كما ورث الدار، ولكنها المرة الأولى التي رقصت له فيها نوسة، وكان من عادته مع كل زيارة أن يمنحها منحة. دستة جاتوه أو فستانا والأغلب كانت المنحة نقودا، وكأنه ينفق عليها، وما من طلب تطلبه منه إلا وأسرع بتلبيته مثل الكراسات والأقلام والكتب الخارجية والملخصات، علاوة على دفع أجرة الدروس الخصوصية وملابس الأعياد.. 

 

  لاحظت انه لا اثر لأي جهاز حديث. راديو. تليفزيون. كمبيوتر أو لاب توب. الفيلا قديمة جدا، فهي تشبه امرأة جاوزت التسعين من عمرها. الندوب والشروخ والعيون الغائرة برموشها المتآكلة. الراديو ماركة فليبس موديل54 مركون في ركن،وكأنه طفل مذنب فجلس القرفصاء بانتظار العقوبة.أما البيانو فهو ملفوف في ملاية

(11)

 سرير قديمة توقيا من نزلات البرد التي تنشط عادة في فصل الصيف. الفيلا نظيفة جدا كما أنها عتيقة جدا. مرسوم على الحائط الشرقي لحجرة الاستقبال لوحة الموناليزا بعرض الحائط وبطوله. أسفل اللوحة دمية لعريس يرقص مع عروسه، وكأنهما في دار الأوبرا، الدمية موضوعة على طقطوقة تتوسط مقعدين فوتيه ماركة لويس السادس عشر. قالت في نفسها وهى تتطلع إلى اللوحة المرسومة: لو أن اللوحة لباقة زهرة الداليا أو البانسيه لكان أفضل وانسب. قال بعد ما استقبلها في غرفة الجلوس: اجلسي. تفضلي. قال لها ذلك بكثير من تودد. جلست بعد تردد. فملابسها رثة. مجرد أسمال بالية ممزقة في مواضع كثيرة. والطرحة رصاصي مائل إلى  السواد محلاة ببقع بيض مثل بقع الجرب التي كثيرا ما توجد في رؤوس أبناء الحارة ببلدتنا. دعبس وحنطور والولد زيطة والبنت فلوطة .. جلست على حرف الكنبه الفوتيه. الأبواب العملاقة والنوافذ الضخمة الواسعة والمصنوعة من خشب الأبانوس والبلوط المطعم بالصدف المذهب والمفضض في تناسق وتناغم ، وكأن الأبواب مع النوافذ ونقوش السقف المرتفع. كأنهم يعزفون سيمفونية لبتهوفن.. النوافذ تسمح بدخول النور والهواء بكميات وفيرة. رغم تلك الستائر التي كانت على ما يبدو في يوم من الأيام بيضاء، ولكنها نظيفة جدا. جلست تحملق في كل شيء حتى في طاقية الشيخ عبد الرحمن الزاوى الناصعة البياض، وعباءته الصوف السوداء ذات الحواف المطرزة بالشريط الفضي. همت أن تسأله عنها ولكنها أمسكت. كان الشيخ ينظر إليها بشغف وبكثير من فضول. كان مبهورا بها. "معقول دى واحدة شحاتة!!؟" جلست وهى تلملم شعرها كلما تسربت خصلاته خلسة من تحت الطرحة التي تقوم بدور البوليس في الدول المغلوب على أمرها، شعرها في حالة ثورة أو تمرد على

(12)

 الطرحة كالشعوب الأبية. تذكر الشيخ عبد الرحمن الزاوى فيلما لمارلين مونرو "دعنا نمارس الحب" كان قد شاهده منذ عشرين سنة تقريبا في سينما مترو بالإسكندرية. تلك العيون الساحرة السوداء. لا شك أنها قد جاءت من عالم السحر والخيال والأحلام البراقة الناعمة المنسابة على مهل تسكب الرونق وراحة النفس والبهجة في كأس العصر الكلاسيكي برومنسيته الحالمة الرائقة. سأل الشيخ نفسه: هل هي فعلا من عالم الإنس؟! كم من العصور استغرق خلقها؟؟ الثغر الباسم في هدوء ينذر بالثورة أو قيام القيامة غدا أو بعد غد. الأنف. الجفون. القوام المصنوع بعناية وكأنها ملك نزل من السماء يتفقد أحوال البشر أو ليسخر منهم .. آه مارلين . اجل مارلين. من الآن اسمها مارلين.. اتخذ قراره..

  علي الكرسي الخشبي يجلس مستسلما وهو يراقب حركات أصابعها علي لوحة المفاتيح وعينيها الزائغة في مساحة الشاشة. حروف وكلمات وأرقام.. ما كل هذا؟! بيانات الموظفين؟؟ بتعجب وانبهار: يا لها من فتاة بارعة رائعة. جميلة أوى.. استسلم لخياله. الموظف يراجع البيانات بكل دقة؛ لأنها ستعرض على المراجع. سيراجع كل كلمة وكل رقم. سيطابق المراجع البيانات المكتوبة على ما هو مثبت  بالملف. قال له الموظف ذلك وعليه أن يصبر حتى تنتهي الإجراءات. آه. الملف. فقال يحدث نفسه : لا شك انه مكتوب في الملف تاريخ الوفاة، فهل مكتوب في الملف أنني سأسقط من على سلم الإدارة؟ وستعثر قدمي وتكسر ساقي؟ هذه لا شك أشياء مهمة والتبعة على الموظف فهو لم يخبرني بشيء من ذلك. مكتوب سرعة استهلاكي للسجائر؟ أظن أن دوري في الجمعية ليس مثبتا؛ فذلك من اختصاص زوجتي. قالت لي أنها ستقبضها في أول يونيه. ستـعيد طـلاء الشـقة. لا. لا . لا. اعتقـد

(13)

أنها ستشترى لوازم ابنتها. ستتزوج قريبا ..

  ماتت نوسه. ضاعت. هو لا يعرف عنها شيئا. تزوجت؟ أخبرته أمها أنها تزوجت من عبد العال المنيسى ورحلت إلى الإسكندرية. أم نوسة اخفت عنه النصف الآخر من الحقيقة، فهي لم تخبره بموضوع الدار التي قبضتها كثمن لزواج ابنتها نوسة من عبد العال المنيسى صاحب الدار التي تسكنها، فهي الآن صاحبة ملك ولم تعد مستأجرة، فأعفى عبد العال نفسه أو هي (أم نوسه) قد أعفته من دفع الإيجار مع أول كل شهر. ثلاثة جنيهات وخمسة وسبعين قرشا يقتطعها من راتبه مع أول كل شهر ودون علم زوجته. تم العثور على زوجها عبد العال المنيسى مقتولا في شاليه بالعجمي بعد اختفاء دام لثلاثة أيام. بعد تسع سنوات عادت نوسة. لابد من زيارتها. واجب. نوسه تعرف قتلة زوجها، وتعرف أيضا أن زوجها هو الذي سرق المبلغ من العصابة. نوسه وضعت المبلغ في حساب أمها بالبنك. نوسه تعرف أن العصابة تبحث عنها. نوسة لم تبلغ الشرطة عن الفاعلين، قالت لوكيل النيابة أن زوجها كان حريصا على إخفاء نشاطه وطبيعة عمله عنها. قالت له: كل ما اعرفه أنه كان يعمل سائقا على  سيارته النصف نقل، نوسة لم تتهم أحدا حتى لا تورط نفسها. منه لله كان نجس ابن وسخة. خمرجى وبتاع نسوان. طول الليل ارقص في الكباريه وقبل م يطلع النهار يكون سارق كل فلوسي. واضح أنها تبرر له سوء مسلكها. هي لم تخف عنه شيئا. حكت له بإسهاب كل ما وقع لها ولزوجها من أحداث منذ أن رحلت إلى يوم أن رجعت من الإسكندرية. كان ينصت إليها باهتمام ومن دون أي تعليق، كان يشجعها على مواصلة الحديث، وكأنه يتفرج على فيلم سينما مشوق ومثير. نوسه تريد أن تتوب، سألت أمها: هل نحن حقا مسلمون يا أمي؟ الأم لا تتكلم. المرض هدها. نوسه تعرف  

(14)

أنه سيأتي فيما بين التاسعة والعاشرة مساء. نوسة في حجرة نومها. نوسه تقف عارية أمام المرآة. هي تكلمه وتتحدث إليه وتتفرج عليه. تتأمله. هي تعرف تفاصيل كل سنتيمتر مربع في جسده. هو يكتب على الحجر بالقلم المسمار وهى تشجعه. هي منبهرة به. لماذا لا تتزوجه؟ نوسه مارست الجنس. هي الآن محترفة بغاء، جمع زوجها ثروته من ورائها. هل ستلقى نوسه نفس مصيره؟ نوسه مرعوبة. هربت من الإسكندرية. هي بحاجة إلى إشباع غريزتها. تريد أن تمارس الجنس. تبحلق في جسده. هي عارية تماما. نوسة تعبث بشعرها وكأنه طفل تلاعبه وتداعبه. أمها في غرفتها مزوية لا تبرحها إلا لقضاء الحاجة. تتحرك كشبح أو كظل لشيء يهتز أو يتراقص كلما عبرت الصالة إلى دورة المياه.  

   أنا ليلان والله العظيم يا أولاد الحلال. سألتها الست بهيجة: وأنت يا أختي منين؟ في خشونة تولى عنها الرد زوجها الشيخ عبد الرحمن الزاوى: من بلاد الله الواسعة، ثم وهو يلوح في وجهها بكفه علامة الانصراف طلب منها بلهجته الآمرة: هات لها لقمة، فانصرفت على مضض. قال وهو يسلمها له: أهى دى البنت اللي أنا لاقتها عند النخلة البحرية. قال له ذلك وهو ممسك بذراعها. عثر على الكنز. عثر على العالم المخفي الذي ظل الشعراء عنه يبحثون في ثنايا الغموض. غموض الزمن بطوله وعرضه. ثروة. هو يريد الثمن، وأي ثمن. الشيخ عبد الرحمن رجل حقاني تمام.. قال لها ذلك وهما في الطريق إلى الفيلا. خللي بالك الشيخ عبد الرحمن ده كبير الناحية دى كلتها. سيدنا كلنا. يعنى خللي بالك. نظر إليه الشيخ: أوعى يا ولد تكون .. لم يدعه يكمل. قال بلهجة جادة وقاطعة: لا. لا يا سيدي. دى بنت زى الجنيه  الـدهب. خللي السـت هـانم تكشـف عليـها وتتأكد بنفسك.

(15)

فضربه الشيخ على مؤخرته، فراح يتحسسها بكفه ليعالج اثر الضربة وهو ينصرف على طريقة إسماعيل يس إلى غنماته التي هي في الأصل غنمات الشيخ عبد الرحمن الزاوى .

   قال لهم الطبيب وقد ارتسمت على وجهه علامات الحزن والأسى: السكتة القلبية. ثم انصرف، فدوى الصوات واللطم بالفيلا كحريق هائل نشب فجأة. مات السيد فضل الله بن محمد سلامة بن فضل الله الكبير. المنسوب إلى عائلة الغنايمى المنحدرة من صعيد مصر. ناحية قنا. فضل الله الكبير المتخرج في الأزهر الشريف. حصل على العالمية في عام 1806 أجهشت بالبكاء وهى تقرأ النعي. بللت دموعها المنهمرة أوراق الجريدة وهى تطالع الخبر/ النعي بجريدة الأخبار (التي وصلت النجع بعد أسبوع) وهى تسقط في بئر الحزن واللوعة والأسى، واضح أنها كانت تتوقع شيئا من هذا، ولذلك قالت رغم جلل المصاب: أحسن م أموت أنا واللا انتحر، وكأنها تبحث عن سبب أو مبرر يخرجها من حالة الشعور باقتراف الذنب إذ تسبب هروبها في وفاة والدها السيد فضل الله الغنايمى .

  وقفت لمدة طويلة نسبيا تتأمل فستان الزفاف. أصرت على شرائه من أشهر محلات إسكندرية. كان مختار ابن خالتها عنايات بصحبتها. قال لها: ولا يهمك هات أحسن فستان. اغلي فستان. الخير كتير والحمد لله. ولا يهمك. المهم رضاك أنت. كان عنده أمل أن ترد عليه ولكنها اكتفت بالنظر إليه. فقال في نفسه: أيامك باين عليها سوده، ثم ابتسم ابتسامة تنم عن حسرة وخيبة أمل، فسألته وكأنها تسخر: عاجبك!؟ فقال لها بلهجة الاسترضاء وبكثير من تودد: المهم يعجبك أنت يا حلم حياتي. فشعرت بمغص فـي بطنهـا، فقطـبت ثم تـلوت. اشـتروا الفسـتان ودوت الزغاريد

(16)

بالمحل.. أمها الحاجة حكمت وشيماء بنت عمتها وصفية بنت الجيران وخالتها عنايات أم مختار العريس، فهي (العروس) لا تقبلها لا في سماء ولا في ارض. كثيرا ما تقول عنها أنها وقحة سليطة اللسان، وأم مختار تعرف ذلك جيدا.. دوت الزغاريد كرصاصات تخرق أذنيها وتدمى قلبها المكسور. الله يخرب بيتك وبيت أمك وبيت ابنك. الله يخرب بيتكم كلكم يا أولاد الوسخة يا بهايم ..

  زوجته في المطبخ تعد طعام العشاء . سأل في نفسه : هل تعرف شيئا عن نوسه ؟ الإنسان في المواقف التي تحتاج إلى تفكير فهو أبدا لا يستخدم عقله. زوجته ماهرة في إعداد الطعام. هي تريد أن تثبت له أنها أحسن من نوسه. هو الآن لدى زوجته كنز. ثروة. هي خائفة من نوسه. هو قد أصبح شيئا له قيمة. آه. يا نوسه يا بنت الوسخة يا لمامه .. جوازه سوده ومنيله بستين نيله . منك لله يا والدي. أنت السبب. أنت السبب. يعنى من قلة الرجاله في البلد!؟ تخريط البصل لم يزل أثره في عينيها. بقى يا نوسه يا اللي ما تتسمى مره في سوق النسوان جايه من آخر الدنيا تخطفي جوزي!؟ آه يا بنت الكلب يا صايعه. والنبي دا أنا اشرب من دمك ودم أمك. هو يفكر بجدية. يسأل نفسه: هل تعرفين شيئا عن نوسه يا زوجتنا الحبيبة؟

  على ما يبدو أن القلم المسمار لم يعد صالحا. نوسه حملت الجاكوش. راحت تدق على المسمار لتدبب سنه. هو ينفخ الهواء بفمه ليطيّر التراب من على الحجر. عندما يتعود الإنسان الظلام فهو يرى جيدا. يرى الجان والأشباح والشياطين والعفاريت الزرق. العفاريت ألوان: ازرق واحمر واصفر، وحياة حبيبك النبي يا رب أنا عـايز عفـريت يعمـل لـي كـل اللي أتمناه. نفسي يا رب

(17)

افرح واهيص ولو ليلة واحده. زوجته رفسته. يا شيخ روح جاءك ستين نيلة وأنت زى قلتك. تذكرت والدها. منك لله. حظي مهبب. كل الرجالة اللي خلقها ربنا دكره، وأنا راجلى يا حسره.. آه يا ولية يا سافلة يا قليلة الأدب. أهلك ما عرفوش يربوك. انخمدى. نامي، ومثلما نصحه صديقه. الفياجرا ح تخليك أسد. بمب، وكانت ليلتها سوده ومهببه بهباب الفرن. قامت. شخت واستحمت، وقعدت طول النهار تضحك وتطبل وترقص وتغنى: يا أبو حبه زرقة يا كايد العزّال. يا رب يا أبو حبه زرقة ما أعبّيك في شوال. حط راسه على حجرة كبيرة ونام. حلم انه مات. دخل النار. في النار عذبوه بالبرد القارص. زمهرير. قام مفزوعا. لطشة برد. بحث في التراب عن قرص نوفالجين. سف قليل من الطين. شعر بتحسن. قالت له جدته وهى تسقيه الزنجبيل الممزوج بزيت الخروع وحبة البركة ولبن العصفور: خد من عبد الله واتكل على الله، وكأنها تقول له: غور في ستين داهية، قرأ جده عليه الفاتحة. أنت عليك عفريت لابسك. الصبح افتح لك الكتاب. أنخمد نام والصباح رباح. قام من النوم. فتح الباب. طلع يجرى. هرب من جده. هرب. هرب من الكتاب. كان نهار اسود على أمه. الكتاب كل يوم ينقص واحد، ذهب إلى المدرسة مع الأولاد. دخل الجنة. المدرس سأله: الـ 3×3 تساوى كام يا حبيبي؟ الله يخرب بيت الكتاب على بيت المدرسة في يوم واحد. الضرب بالعصي أحسن من الضرب بالزخمة والمد في الفلقة.

   قبل أن يوقع على الإقرار راح يقرأ الكلام المكتوب حرفا بحرف في تأن وتؤدة وببطء شديد علّ الموظف أن يراجع موقفه ويرجع في كلامه، ويقول له أن القوانين قد تغيرت، لقد اكتسبت خبرة عظيمة. آه. سأعمل بهمة ونشاط. سأعمل بذمة وبضمير، بغضب ونفاد صبر قال له الموظف بلهجة اعتـراض: سـاعـة بـ تقرا في

(18)

حتة ورقة!!؟ آه. على ما يبدو انك لا تعرف أنى قد بلغت الستين منذ ستين سنة. فخطف الموظف منه الإقرار مجرد أن وقع عليه..

  الموظف ببرود يتطلع إليه بهيئة الساخر منه: تفضل اطلع برّه. انتظر شويه . سأله والده عن الحماره والبقرة. أخبره بالتفاصيل: الجاموسة نفقت. البقرة باعها ابنك الأكبر، وانفق فلوسها على أشياء ليست لها قيمة الآن مثل الكتب، أما أنا فاشتريت تليفزيونا ملونا وفيديو. امتعض الوالد: هل تطلون التليفزيونات الآن؟! الحمار يا والدي. آه. لا تذكرني. نفق قبل الخميس الكبير يا والدي. فبكى الرجل بحرقة. آه يا حماري. آه يا حماري، فشرع هو الآخر يبكى ويحكى: اقتسمنا الأرض يا والدي وتشرذمنا. كل واحد في ناحية. كيف حال شقيقتك يا ولد؟ يقولون أنها قد تزوجت. اعتقد ذلك يا والدي. أظن أن عندها الآن ثلاثة أولاد. هل بعثت بأحدهم إلى الكتاب؟ لا اعرف. لا اعرف. كيف حال تشرشل يا والدي؟ هو الآن موقوف. هل عندك أخبار عنا يا والدي؟ أف. انتهى. انصرف، ثم راح يدق بالمسمار على الحجر ونوسه إلى جواره وكأنها تملي عليه: هل بحبك يا حمار هي حالة تمرد أم هي ثورة على الأحداث؟! هل هي اعتراض على تصرفاتنا. هو جالس على الكرسي يثقب السقف ببصره. عله يبحث عن شيء ما. ثمة ربكة حدثت الآن. أشياء غريبة تحدث. الموظف في حالة سيئة للغاية، همهمات وهمس ثم لغط حديث يدور هنا وهناك. الموظف اكتشف ضياع حرف الألف من اسمه ونقطة الفاء في كلمة الفلاح. حسن عبد السلام الملاح. اسمه الحقيقي حسّان عبد السلام الفلاح. وعده بأن يكون الأمر سرا. لن أقول أي شيء للمدير..

 (19)

   كان الفستان مفرودا على السرير، والى جوارها وقفت بنت عمتها وصديقتها شيماء وهى تبدى إعجابها بالفستان البنبى المطرز باللولى المفضض: أما حتة فستان يا بنت يا ليلان. إنما إيه. تحفة. نفسي أشوفه عليك. ح ياكل منك حته.. امتعضت ليلان وتأففت. كادت الحسرة أن تعتصرها عصرا، ثم قالت لها بعد فترة صمت: ممكن تقيسيه أنت؟ إيه رأيك؟ أشوفه عليك. فقالت لها شيماء وكأنها تشاطرها الأحزان: بعد الشر. لا يا حبيبتي. فال الله ولا فالك.

  شعر الشيخ عبد الرحمن الزاوى بقوة أن وراءها سرا ما، فحدّث نفسه: هو كده بالضبط. عملت العمله وهربت. يا ابن الشرموطه. آه لو أعرفك، علىّ الطلاق بالتلاته لأخرطك بالفاس. يا ترى انت منين!؟ انت مين؟! يا دى المصيبة لو ولدت عندنا. أهي دى المصيبة بجد. ح يتهموني أو يتهموا أيمن ابني. م هى ح تسرح معاه الغيط كل يوم وطول النهار. لا. همّ مين!؟ ساعتها البّسها للولد حمد. مش هو اللي لقاها؟ يبقى هو اللي عملها. ربنا يستر.. أحضرت لها بهيجة (زوجة الشيخ عبد الرحمن الزاوى) الطعام. فرخه بلدي محمرة وسلطانية شوربة وطبق أرز مسلوق وقارب سلطة طماطم وفلفل اخضر وخيار. هات لها شوية ميّه تشرب. حاضر، ثم انصرفت تلبى الطلب. يا ترى انت اتحدفتى علينا من آنى داهية؟!

  حاول أيمن بن الشيخ عبد الرحمن أن يعرف أصلها وفصلها، فقالت له كل شيء بالتفصيل وهى تمسح الفضاء بعينيها تارة والحقول الخضراء المترامية الأطراف تارة أخرى: توفيت والدتي وأنا طفلة صغيرة. كان عندي في وقتها ست سنين تقريبا، تزوج والدي، وكان اسمه فؤاد السمرى. كان بـ يشتغل فران في قنا ، فقال لها أيمن: أنا اعـرف كل الفرّانين اللي فـي  قنا. عمـري ما

(20)

سمعت عن الاسم ده. فابتسمت وكأنها تسخر لغفلته فراحت تفهمه: الكلام ده يا أيمن كان من زمان، من اكتر من عشر سنين، ثم واصلت: لما تزوج أبى تركني لجدتي، بعد كده هرب من البلد. طفش. بعد سنة ماتت جدتي. فعقب أيمن: الله يرحمها، وهى تواصل: المهم ارتميت في الشوارع. أشحت لقمة من هنا على لقمة من هناك. بعد كده واحد ابن حلال خدني وقدم لي في المدرسة. وبعد م خلصت الدراسة. قال إيه. عاوز يتجوزنى. يعنى عايز يقبض التمن. تصور يا أيمن انه كان عايز منى حاجات تانية!! فسألها أيمن ببلاهة مصطنعة: حاجات زى إيه يعنى؟ فزغدته في صدره زغدة قوية، ثم واصلت الحديث: طيب قل لي أنت يا أيمن. اعمل أنا إيه؟ طفشت من البلد، منهم لله. يجيبونا للدنيا ويرمونا زى الكلاب. تناولت القلة. شربت ثم شرب أيمن..

  هي لا تعرف أن شيماء صديقتها وبنت عمتها توحة قد تزوجت من مختار ابن خالتها عنايات، وقد ارتدت فستانها البنبى في يوم الشبكة وعقد القران، حاولت الحاجة حكمت والدة ليلان أن تؤجل ليلة الزفاف إلى مرور السنوية، أي بعد عام كامل على وفاة زوجها السيد فضل الله والد ليلان، ولكن عنايات شقيقتها أصرت على رأيها: أنا يا حكمت يا أختي. خلاص أعطتهم كلمة، وأنت ما يخلصكيش ارجع في كلمتي. الناس يقولوا علىّ إيه!! 

  سألته زوجته فحكي لها كل شيء بالتفصيل، وكأنه يشكو إليها سوء تصرف الموظف حياله، وكيف كسرت ساقه عندما عثرت قدمه على سلم الإدارة وكأنه يختلق مبررا لتأخره، ثم سألته عن صديقتها الأستاذة فكيهة موجهة المسرح لتطمئن على دورها في "الجمعية" فهي لم تزرها منذ أربعة أيام. تخبّل. تغير لون وجهه. اصـفر وبـهت. دقـات قلبه تكـاد أن تسـمعها زوجته. علم زوجها

 (21)

فاتصل به: لو انك فكرت ولو لحظة واحدة أن تتزوج بزوجتي فسأتزوج أنا الآخر بزوجتك، ثم بصق عليه في التليفون.. كثيرا ما كان يأنس لها ويتودد إليها لتغنى له بصوتها الجميل "أنت عمري" أو "الأطلال" .

  في الحب نجد في المرأة ما نريده نحن، وفي الزواج نجد في المرأة ما تريده هي، فهل ما نريده تحن هو نفس ما تريده هي؟؟

   سألته: جوزي كلمك؟ أيوه يا ستى كلمني. تف في وشّى. علىّ النعمة لمتجوزك بالعند فيه. هـء. اتجوزك على إيه يا حسرة!؟ دا أنت مكسر ومخلع ومنيل بستين نيلة. آه. يا قليلة الأصل. طيب جربى. ديتك بوسة في بقك.. علاقته بفكيهة تسمح له بذلك وأكثر إذ كان يسرب إليها المعلومات وأسرار الإدارة ويتوسط لها لدى مدير الإدارة في اغلب الأحوال، فعندما تعنت معها المدير في موضوع الإجازة لمدة شهر تدخل لصالحها وأنجز الموضوع في غضون يومين، كما انه يعد ساعدها الأيمن في عملية الإخراج واختيار النص المسرحي وإدخال التعديلات المطلوبة عليه وعملية التقييم. كثيرا ما استفادت بمواهبه رغم هبوط المستوى، هو يفكر في لقائه المنتظر بنوسه. ستحكى له الأحداث وكل ما وقع لها في مدينة الإسكندرية، وقصة زواجها من السيد عبد العال المنيسى الذي تقطن أمها داره الآن وبعد أن أصبحت مالكة لها. أم نوسة. اسمها الحقيقي سعديه سليمان. جاءت إلى البلدة عروسة جديدة، فهي من إحدى القرى المجاورة: مستناد أو محلة بشر والأرجح أنها من أبى منجود، عمل زوجها كلافا عند عبد التواب المنيسى الذي هو والد عبد العال. اقتطع من وسعاية "حوش" داره مساحة قرابة الأربعين مترا مربعا. أقام عليها حجرة تصلح للسكن ودورة مياه، والمساحة المتبقية لتربية الطيور، وبمرور السنين وسنة التحول، وبعد إدخال التعديلات عليها أصبحت حجرتين وصالة ودورة مياه. الدار الآن في زقاق طوله يزيد قليلا على العشرة أمتار وبعرض المترين أو الثلاثة،

(22)

وهى المسافة التي تسمح بباب ونافذة. عادة  ما تراقب منها نوسة زبائن قهوة جنّح على الجانب الآخر من الشارع الرئيسي والمواجهة للسرب. على يمين الداخل إلى السرب عمارة الزنقلى ويقطنها الأطباء في تخصصات كثيرة: باطنه ونساء وولادة وأسنان وعيون وجراحة ومركز تحاليل طبية، وتطل بوابة المدخل إلى الأدوار العليا على السرب، أما العمارة على اليسار فلا توجد بها فتحات. باب أو نافذة بالدور الأرضي كعملية تأمين لمحلات الصاغة والسوبر ماركت. سعدية سليمان أو أم نوسة دخلت عالم الرجال من باب الخدمة في البيوت بعد وفاة زوجها في حادث سيارة. واشتهرت بالأمانة وطهارة اليد والمهارة في عملية تنظيف المنازل بالإضافة إلى حذقها للكلام المكشوف والعبارات الجارحة دون حياء واستخدامها للألفاظ التي يعاقب عليها القانون، وكانت ربات البيوت يشجعنها على ذلك ويموتن من الضحك. وعادة ما كان يقوم الناس خاصة الرجال بالتصدق عليها في أوقات متأخرة من الليل لضمان السرية وحفظا لماء الوجه. تعرفت أم نوسة على الأستاذ خيري القوصى، ونشأت بينهم علاقة خاصة، فكان يسهر عندها للفجر، ثم بعد ذلك تعرفت على كل من عباس الفكهانى وعزّات القصاب. كانت أم نوسة تختار أصدقاءها ولا نقول عشاقها بعناية، فتخلت عن الخدمة في البيوت لتوافر الممول. انقطعت صلتها بخيري القوصى فاستبدلته بالأستاذ حسّان الفلاح، وكان من عادتها ألا يجتمع لديها رجلين في ليلة واحدة، فكثيرا ما كانت تستأثر بالرجل الواحد لمدة أسبوع، ويمكن أن تمتد لشهر. كانت تفعل ذلك مع الأستاذ حسان بخاصة. إذ كانت تشعر تجاهه بشعور يختلف عن الرجال الذين قد عرفتهم من دي قبل. قالت له ذلك. عله الحب، والنساء لسن لكل الرجال كما يتصور الكثير منا. نفسي أتجوزك وأعيش خدامة تحت رجلك،

(23)

 ولهذا السبب أصرت على تزويج ابنتها نوسة من عبد العال المنيسى ودون علم حسان، فقد تعمدت قطع علاقتها به في تلك الفترة. ومجرد أن تزوجت نوسة ورحلت صالحته بأن ذهبت إلى داره تعرض على زوجته رغبتها في تنظيف البيت ومساعدتها في الخبيز، فرحبت، وهى الآن مطمئنة فنوسة قد تزوجت ورحلت. غارت في ستين داهية. مكثت أم نوسة في بيته إلى ما بعد آذان العشاء، تكنس وتمسح وتغسل وتخبز، وهناك في بيته دعته على العشاء: أوعى تنسى أو تتأخر. أنا ح استناك. قبل الدعوة بعد تمنع طال لفترة. فظلت ترجوه وتتوسل إليه حتى كادت أن تبكى. كانت حريصة ألا تلحظ زوجته شيئا من ذلك. فإذا ما انشغلت بالمطبخ انشغلت أم نوسة بمسح بلاط الحجرة التي يستريح فيها، وإذا ما انشغلت بتنشير الغسيل على السطح. انشغلت هي بتعليق الصور على جدران حجرته أو تركيب الستائر، وكأنها في أغلب الوقت قد اختزلت أعمال البيت كله في حجرته. لم تغادر أم نوسة المنزل إلا بعدما قبل دعوتها وتأكدت من صدق كلامه. في اليوم التالي كان جالسا معها على الطبلية في حجرة النوم، تناولت معه طعام العشاء وهى شبه عارية. يسترها قميص نوم أحمر يصلح لطفلة في العاشرة والكلوت من شبك صيادي السمك الصغير في النهر. فكل شيء يشف عن كل شيء، وقد أطلقت لشعرها العنان فهاج وماج وصال وجال. قضى معها أمسية طيبة وممتعة للغاية، ولم يعد السرير ينفع للنوم عليه بعد تلك الليلة، وعند الفجر غادرها قاصدا بيته.   

               

  كان يشعر ببعض الضيق والإرهاق، ورغم ذلك التقط القلم المسمار، أما نوسه فهي كعادتها تقف إلى جواره تراقبه. شرع يدق على الحجر: هل تصبح الحياة أكثر عدلا؟ أكثر قبولاللإنسان؟ أكثر أمنا؟ أكثر مناسبة؟ أكثر استقرارا؟ الدنيا ليست مهيأة لسكن

(24)

الإنسان بالقدر الكافي، هل يبحث الإنسان عن مكان آخر؟ آه. لا شك انه سيظل يبحث عن نفسه. أنا ابن الإنسان اللي ضاع ولحد النهار ده ما حد التقاه.. انتصب واقفا. القي بالقلم المسمار على طول ذراعه. نوسة انزعجت. غضبت جدا لتصرفه. لم تقدر على اللحاق به؛ لأنه جرى بعيدا هناك. هو الآن في قلب الغيط حيث الخضرة والأشجار والساقية والثور معلق بها من رقبته والغمّاية على عينيه. جلس فجأة. أخذ يفك شلة الخيط الغزل. من البوص والورق صنع طائرة.

  واضح انه مشغول بنوسه. مشغول بلقاء هذا المساء. نوسه ليس لها أولاد. أمها الآن مريضة في حكم الأموات. نوسه سترث الدار عن أمها. نوسه تمتلك الآن عمارة في سيدي بشر بالإسكندرية هي نصيبها من ميراث زوجها النصاب.. فكر في كل هذا بجدية..

   لمعت بذهنه فكرة كبيرة. علىّ الطلاق ما أنا سايبك حتى لو الدنيا انهدمت. قام قبيل أذان الفجر بتنفيذها. وصلا إلى محطة سيدي جابر، ومنها استقلا القطار إلى سيدي بشر، لم يسألها عن شيء، ولكنه اكتفى بهز رأسه متعجبا. شحّاتة! قال شحّاتة! واضح أن السيد عبد الرحمن الزاوى غير مقتنع بالصورة المزرية التي كانت عليها مارلين حينما وطأت قدماها القصر، كما أن مارلين لم تفصح عن هويتها أو اسمها الحقيقي، قص أيمن عليه حكايتها التي حكتها له في الغيط. فأيقن السيد عبد الرحمن الزاوى أنها كاذبة في كل ما قالته وكل ما حكته لأيمن؛ لأنها لا تحمل أي ملامح تدل على أنها صعيدية، لهجتها بين البحراوية والاسكندرانية. حتى منطق الكلام وطريقة الحديث. عبد الرحمن الزاوى مدرك تماما أنها حالة خاصة تخفى من ورائها سرا ما.

(25)

عرف ذلك جيدا وأيقن عندما اصطحبها إلى البندر وترك لها حرية اختيار ملابسها، فقد أدرك ذوقها الرفيع في عملية الاختيار. كما أدرك من تصرفاتها ومنطق حديثها قوة شخصيتها ورجاحة عقلها خاصة عندما كانت تطالع الصحف، فكثيرا ما تناقش معه قضية الشرق الأوسط وعملية توازن القوى ومدى تأثيرها على حل المشكلة الفلسطينية وأحداث العراق والانتخابات في الولايات المتحدة الأمريكية، وكأنها أستاذ جامعي، ولذلك فنجده عادة ما ينعتها بـ يا أستاذة عندما يستشيرها في أمر ما، عبد الرحمن الزاوى يدرك أنها سيدة أو فتاة من طراز نادر. سرعان ما استبعد فكرة ارتكابها الفاحشة لجديتها في التعامل وفى الحديث وجرأتها في إبداء الرأي، فقد اعترضت على أسلوب تعامله مع زوجته.. نصحته بأن يصطحبها إلى البندر للتنزه ورؤية الدنيا. قالت له: من واجبك ومصلحتك أن تشعرها بأنها زوجتك وليست خادمة لك.. غيرت من سلوكياته حيال زوجته وابنه أيمن لدرجة انه قد تخلى إلى حد كبير عن تعاليه على أهل بيته.. ليلان لم تفصح أبدا عن شخصيتها كما أنها لا تحمل أي أوراق تثبت شيئا من ذلك، ولكن تصرفاتها قد فضحتها، عبد الرحمن الزاوى يقدر لها لمساتها في ترتيب أثاث الفيلا  وأسلوب إدارتها، فكل شيء بحساب وكل شيء بنظام حتى في طريقة الإنفاق والصرف من أمواله واستقباله لزواره، إذ كان لا يهتم بمسألة المواعيد، فهو يخرج من البيت في أي وقت ويدخل في أي وقت وينام في أي وقت حتى تناوله لطعامه. في أي وقت، كانت ليلان تهتم كثيرا بالزهور مستعينة بخبرتها الواسعة في كيفية تنسيقها وجلبها وزراعتها وتعهدها. كانت معنية بكل شيء. خلصت بهيجة من أثقالها، فهي الآن بهيجة هانم، ارتدت الفستان وودعت الجلباب ومنديل الرأس المعصوب. يا طانط أنت جميله أوى. حرام. حرام

(26)

عليك تخبي جمالك ده كله، والله عمى ده ذوقه في السما لما اختارك. عرفت بهيجة هانم الروب دى شامبر الستان السادة والمشجر والطرح والاشربات الشيفون التي تشف عن تسريحات الشعر، فبدت لزوجها عبد الرحمن الزاوى وكأنه تزوج بغير امرأته، عينت الخدم بزيهم الموحد ووزعت عليهم العمل، عم إبراهيم لتقديم واجب الضيافة تساعده البنت حبيبة، وعم محروس للبوابة، شحاته لقضاء الطلبات وشراء ما يلزم الفيلا من حاجيات يساعده الولد عبد الأول. أما النساء فلطهي الطعام وتقديمه بالإضافة إلى النظافة والغسيل وكي الملابس، وفاطمة لاستقبال الضيوف واصطحابهم إلى حجرة الصالون، وذلك مقابل إطعامهم وكسوتهم والأجر المناسب لحياتهم الخاصة المتواضعة إذ كانوا من طبقة الفقراء والمتسولين في النجع، أحدثت ليلان تغيرات جوهرية بالفيلا من حيث تنظيم العمل وترتيب الأثاث والنظافة وطريقة تقديم الطعام، وكلها أمور كانت تجهلها بهيجة هانم، في غضون اقل من شهرين أضحت ليلان وكأنها سيدة القصر والمستشارة الخاصة لعبد الرحمن الزاوى.

  رآها خلف الفيلا  وهى تسوس جواده الأرعن الشرس في ساعة العصر، قفزت تعتلى ظهره وتمتطيه بمهارة الفارس المتمرس الواثق من نفسه. رفع الحصان أماميتيه. رقص بها. هيس. خلاص. كفاية كده. Vary good Jake كم مرة حلمت بأن تكون نجمة سينما مشهورة. قامت بتمثيل مسرحية الآباء من تأليفها وإخراجها. لعبت دور الأب الذي ينهى ويأمر ويطلب بغطرسة. فهو الأب .. يا لهوى. أوعى يا بنت تكوني بـ تفكري في الحكاية دى. نتبروا منك على طول. كانت واثقة من ملكات ابنتها. تتمنى أن تراها ذات يـوم نجمة سينـما مشهـورة، فأقنعت والـدها السيد

(27)

فضل الله أن يعلمها قيادة السيارة.

  سارت إلى جواره وهى تتذكر تلك الأيام. أيام الدراسة والمصيف على شواطئ الإسكندرية، العيال وهمّ بـ يعاكسوها، شاطئ سيدي بشر، كم مرة صرخت، وكم مرة رقص قلبها. المايوه البكيني وكراسي الشاطئ والماء المالحة، وإقامة القصور على الرمال.

  هو لا يعرف من أين جاءت تلك الشجرة؟ سأل: هل زرعت لتوها؟! تنبه انه في الغيط. حدف طوبه. تساقطت ثمار التوت على الأرض. تذكر سيدنا آدم. راح يأكل من التوت بترابه. آه. عليك أن تستمع جيدا لكلام زوجتك. هو يقدم لنفسه نصيحة. ترامى إلى سمعه صوت السيد محمود الزمرانى. رئيس الشئون القانونية. الصوت ينبعث من حجرة الشئون القانونية عن يمينه: هو شارون ح يدخل النار؟ ستحدث مشكلة هائلة. الاسرائليون يريدون أن يدخلوه الجنة، والعرب يريدون أن يدخلوه النار. اليهود والأمريكان والروس وأوربا كلها والصينيون سيقفون مع الإسرائيليين. المسلمون ومسيحيو الشرق سيقفون مع العرب. ستقوم حرب طاحنة. سأل الأستاذ زين الدين عوض الله بلهجة المازح: هل في العالم الآخر دبابات يا أستاذ جبر؟!!   لطشه النوم. نام.

      وصلا. عبد الرحمن الزاوى وبصحبته مارلين. كانت الساعة التاسعة صباحا تقريبا. ضغط زر جرس الباب. بعد برهة فتحت سوسن الباب لتقع عليه عيناها فاحتوته بين ذراعيها وهى تقبله بشغف: أوحشتني. أوحشتني والنبي يا عبد الرحمن، فابتسم لها قائلا وهو ينبهها: طيب. ندخلوا الأول يا سوسن.. دخل عبد الرحمن الزاوى ثم دلف مباشرة إلى غرفة نوم الأولاد وفى إثره شقيقته سوسن. راح يوزع عليهم القبل بالتساوي، فاستيقظوا

(28)

ليتشعلقوا في رقبته حتى أجلسوه عنوة على السرير. خالي جه. خالي جه. سحبته سوسن من ذراعه إلى غرفة الاستقبال. أحكمت غلق الباب، ثم بادرته بقولها: قل لي يا عبد الرحمن يا أخويه. مين اللي أنت جايبها معاك دى؟!! تتجوز واحده من دور عيالك يا عبد الرحمن!؟ مش حرام عليك؟! بعد العمر دا كله، وتروح تتجوز!!؟ لا. لا يا عبد الرحمن. دا أنت طول عمرك عاقل وبـ يضربوا بك المثل. حاول عبد الرحمن أن يخلص ذراعه من قبضتها برفق، كانت رجاتها له قوية: اقعدي. اقعدي يا سوسن. ح أقول لك على كل حاجة. شرع يشرح لها ويوضح ويقص عليها حكاية مارلين الشحاتة وكيف عثر عليها الولد حمد الراعي. قال لها أن حمد وجدها عند النخلة البحرية، ثم وهو يواصل: كانت جائعة جدا. شقيقته سوسن تستمع إليه متصنعة الاهتمام. كادت أن تتهمه بالعبط، فاكتفت بقولها له: أنت يا عبد الرحمن يا أخويه بـ تسمع تمثيليات كتير الأيام دى؟! بذمتك ودينك يا عبد الرحمن ده منظر واحده شحاته!!؟ أنت يا عبد الرحمن فاكرني واحده هبله واللا عبيطة؟! ثم غادرته وهى غير مقتنعة بكلامه. إلا أن ثائرتها قد هدأت كثيرا خشية غضبه منها. تركته ليستريح من عناء السفر. فرد طوله على الكنبة في غرفة الاستقبال ليغرق في التفكير وكيفية إخراج الفيلم الذي أعده بطريقة جيدة: آه. كده تمام. شهر واللا اتنين الناس تنساها. وبعد كده أقول أنها بنت أختي سوسن، والولد يتجوزها وخلاص. مش ح يلاقى أحسن منها. هو طبيعي اتعلق بيها. انتهت سوسن من عملية إعداد الطعام، وفى نحو الثالثة عاد زوجها خليل السلمونى من عمله. أيقظت عبد الرحمن. قوم يا عبد الرحمن العصر قرب. يا الله. الغدا جاهز. قام عبد الرحمن بتكاسل. توضأ. صلى الظهر ثم العصر حاضراً. توجه إلى المائدة ليستقبله خليل السلمونى زوج شقيقته

(29)

سوسن بحفاوة وترحاب يليق بمنزلته ومكانته لديهم أو كشخصية لها ثقلها في النجع. جلسوا جميعا إلى مائدة الطعام: ذكر بط وجوزين فراخ بلدي، وكل واحد فردتي حمام محشو بالفريك وطبق بامية وطبق أرز باللحمة المفرومة. أجلس مارلين إلى جواره وأخذ يشجعها على تناول الطعام: ده بيت أختي، يعنى بيتي. كلى. أنا عايزك تاكلى كل اللي قدامك. كلى. نظرت إليه مبتسمة ثم تحولت ببصرها إلى سوسن: أكلك جميل يا طانط. بالهنا والشفا يا بنتي. م تنكسفيش. البيت بيتك. قالت لها ذلك وكأنها تسترضى شقيقها عبد الرحمن الزاوى. تناولوا طعام الغذاء، وفى حجرة الأولاد شربوا الشاي وهم يتبادلون عبارات الترحيب. زوج سوسن كان يتعامل مع ليلان ويتحدث إليها باعتبارها زوجة عبد الرحمن الجديدة، فهو عندما يتوجه إليها بالحديث يستهله بعبارة "حضرتك يا هانم".

  عندما دخلت الشمس في مرحلة الغروب تهيأ عبد الرحمن الزاوى لمغادرة شقة شقيقته سوسن ليلحق بالقطار المتجه إلى القاهرة ومنها إلى الصعيد. بعد المصافحة والعناق همس بأذن سوسن: مارلين أمانة في رقبتك، ثم ناولها مظروفا دسته في عبها ودعت له بالبركة وسعة الرزق.

 عبد الرحمن الزاوى. كبير الناحية رغم انه قد بلغ الخمسين من عمره، فقد ظهر أصغر من ذلك بأكثر من خمس سنوات تقريبا. عبد الرحمن الزاوى إنسان  عادى كأي إنسان. له جسد ممتلئ في غير ترهل صحيح البدن. أقرب إلى البياض منه إلى اللون الأسمر. حليق الذقن دوما. له شارب يضفى على وجهه كثير من وجاهة. طويل نسبيا. له عينان قويتان. تعلم في الكتاب. كتاب 
(30)

مدينة قنا التي يبعد النجع عنها بمسافة تقل قليلا عن الخمسة كيلومترا. يحفظ بعض الأجزاء من القرآن الكريم لا تزيد عن ثلاثة وبعض آيات متفرقات عادة ما يتلوها في صلاته. له أشقاء ثلاثة: عبد التواب طبيب عيون بالقاهرة وعبد الظاهر معيد بكلية طب أسنان جامعة حلوان ، أما عبد الوارث فقد اشترى قطعة أرض وبني بيتا في قنا وهو يعمل محامى بالمدينة بالإضافة إلى شقيقتهم سوسن المقيمة بمدينة الإسكندرية، وقد اختص عبد الرحمن بشئون الأرض وما يلزمها من فلاحة،  بالإضافة إلى إدارة شئون العائلة في النجع. تزوج عبد الرحمن وهو في الثامنة عشرة من عمره من بهيجة بنت عبد الموجود الصباحي كبير عائلة الصباحي بقنا.

    تميز عبد الرحمن الزاوى عن اقرأنه بكثير من هدوء الطبع وقلة الكلام وحسن معاملة الغير، أهم من ذلك قدرته أو استعداده لتفهم الآخر وحسن الإنصات للمتكلم، ولذلك نجده يجيد فرز الكلام غثة من ثمينة وصدقه من كذبه، ولهذا السبب فعادة ما يستدعى للقعدات (المعاد) الكبيرة، وكثيرا ما يرد الحق إلى أصحابه بصلابة ودون مواربة، ومن معايبه حدة غضبه إذا ما غضب، وقلة اعتماده على السياسة كأسلوب في انجاز المهام الصعبة والتي هي بحاجة إلى مرونة وصبر، فلم يزل يحمل صفات الشباب إلى حد بعيد، أو هي خلة من ميراث الطبع الصعيدي، وهو مشغول بالناس أكثر من انشغاله ببيته وبأسرته. كثيرا ما كانت تعترض عليه مارلين وكثيرا ما كانت تتدخل وبإصرار، مما اضطر عبد الرحمن أن يترك لها شئون الفيلا وإدارتها، ولا مانع أبدا عنده أن يستشيرها في بعض الأمور التي تخص النجع أو ما يقع بين العائلات من خصومات، وكثيرا ما يدور بينهم نقاش وجدال في مجالات عدة. عادة ما يحضر أيمن تلك السجالات، وكأن والده قـد تـعمد ذلك ليسـتقي  منـها أيمـن طـريقة التفكير وأسلوبه التي

(31)

افتقدها في مشوار تعليمه من الثانوي إلى الجامعي.       

       

  سأل نفسه: أين التوتة؟! ثم اخذ يتلفت من حوله. شعر بألم شديد في ساقه اليمنى. أشارت عليه زوجته بان تعرضه على الطبيب. رفض: بعد قليل ستزول الآلام. زوجته لا تريد الإنفاق أكثر من اللازم، فكسر ساق ليس بالأمر العظيم. تذكر يوم أن مُنح الدرجة الثالثة. لأنها ترتب له الحق في الزواج. مقعدته تؤلمه. الدكة التي يجلس عليها إلى جوار حجرة المراجع ليست مريحة بالقدر الكافي. على ما يبدو أن الموظف قد انتهى من مراجعة البيانات، وبعد قليل سيعرض الملف على المراجع.

  إيه رأيك ندخلوا جوه أحسن. قرصته في صدغه. السفالة وقلة الأدب وحشتك؟! ثم هربت إلى الداخل. جرى يتبعها. اهتز السرير. كفاية يا ابن الوسخة.. نؤجل الكلام في موضوع الجواز الليلة دى. يعنى إيه؟! رجعت في كلامك؟! لا. أبدا. مجرد ترتيبات يا نوسه يا حبيبتي.

 بابا العزيز. أنا في طريقي إلى ايطاليا. سأراسلكم مجرد وصولي، ثم ألقت بالموبايل ليستقر في باطن الترعة، فدارت برأس السيد فضل الله الغنايمى والد ليلان أحداث غرقى القوارب الحالمين بالسفر إلى أوربا.

   قالت له السيدة بهيجة هانم وهى تستقبله لدى عودته من السفر. من عند أخته سوسن: كده أحسن. عملت طيب. الولد طول النهار وكل يوم سارح بيها، واهى تخدم سوسن بلقمتها.. تخلصت بهيجة هانم من مارلين فضمنت زوجها وولدها أيمن. لم تكن مارلين بغريبة على سوسن شقيقة عبد الرحمن الزاوى، فهي تعرفها جيدا. موقنة من ذلك،اجتهدت لتتذكر. تأكدت من صدق 

(32)

حسها في اليوم الثالث. ليس ذلك هو اسمها. هذا ما قالته سوسن لزوجها خليل السلمونى. قالت له ذلك وهى تطلعه على صورتها المنشورة بجريدة الأهرام. دى اسمها ليلان بنت واحد اسمه فضل الله الغنايمى من بلد اسمها شبراخيت. البلد دى تبع محافظة البحيرة، ودى صورتها. بدت عليه علامات الدهشة والاستغراب وهو يتفحص الصورة  بنظارته الطبية, فعلق وكأنه يؤكد حقيقة لا تقبل الجدل أو النقاش: بنت زى دى تهرب في قلب الصعيد من أهلها. دى لازم تكون عامله عملة. لا. صعب. لأنها لو عامله عمله. أهلها عمرهم م ح يدوروا عليها. بالعكس. بلوى وانزاحت. وساعتها ممكن يقولوا سافرت أمريكا واللا راحت انجلترا. زم خليل شفتيه علامة الشك أو عدم التيقن والاقتناع: جايز. فقالت سوسن بتحسر وحزن عميق كأم لأولاد: يا عيني. يا حسرة قلب أمها عليها.

   قال عبد الرحمن الزاوى بصيغة سؤال لزوجته بهيجة هانم، وكأنه يستطلع رأيها في مارلين كزوجة لولده أيمن: إيه رأيك نجوزوا الولد أيمن. باقتضاب. سعاد بنت خالته مش عجباه.

  على ما يبدو أن احد الرعاة يشوى سمكة على النار البادية له عن بعد، سار باتجاهه، انتظر نوسه لوقت طويل. لم تأت بعد. قال في نفسه: علها هناك. النار مع خطواته تأخذ في التلاشي رويدا رويدا. وصل فلم يجد شيئا. آه. نوسة أجمل امرأة في العالم. زوجتي مثل شعوب العالم. تصدق كل شيء. تذكر الشعب الأمريكي. صدق حكاية أسلحة الدمار الشامل في العراق. يصدقون شارون ونتنياهو. القتلى والجرحى بالملايين، أما السلب والنهب والاغتصاب فبالدول. نوسة لم تبلغ الثلاثين من عمرها بعد. عقد معها صفقة. النومة بعشرين جنيه. أدوات الزينة والماكياج وقمصان النوم كذلك علـى نفقته.. لقد اختـرت لك أن تعيشين في

(33)

تلك الغرفة القذرة. صحيح هي مظلمة، ولكنها مناسبة لحالتك البائسة يا أماه. تحملي يا نوسة. حسان رجل محترم. ينفق علينا بسخاء. يستحق أن نضحي من أجله، ثم سألتها: متى تتزوجينه؟ لا اعرف. لا اعرف.

   سأله سيدنا في الكتاب: أنت حفظت؟ ح تفضل طول عمرك حمار ابن حمار. قال في نفسه: نهارك اسود يا سيدنا. ما عندك غير حفظت هذى؟! قال سيدنا لوالده عندما زاره في الكتاب للاطمئنان على مستواه: ابنك عفارم عليه. تمام. حتى أنت يا سيدنا؟! هل تقول شيئا؟ لا. أبدا. أعطى والده لسيدنا ريالا.. شكره ثم انصرف.      

                                  

  الموظف الآن يحمل ملف خدمته كتابوت لجنين سقط توا من بطن أمه. هو واقف بباب المراجع يطمئن لعمله: الأوراق سليمة والبيانات صحيحة. المراجع سيقدم لي الشكر. لا. سيأمر بصرف مكافأة لي.. كل ما هو مدون بالملف معلوم لدى الكافة. منشور ومعلن، إذ كان من عادته أن يصور كل ما يتعلق به من أوراق، وكلما عضه الجوع أو شعر بحاجته إلى نقود، فيقوم ببيع تلك الأوراق لبائع الطعمية، وعلى بائع الطعمية أن يتولى النشر.

  هو، حسّان عبد السلام الفلاح، جالس على الدكة يراقب بدقة تحركات الموظف. تذكر الأوراق. تذكر بائع الطعمية. قال في نفسه يسأل: هل بمقدور بائع الطعمية عمل القراطيس من الحجر؟!

  نوسة دخلت الحمام. نوسه استحمت. نوسة جففت جسدها. نوسة لفت شعرها المبلول بالبشكير، ثم لبست الكلوت الأسود والقميص الأحمر. خرجت من الحمام. عبرت الصالة إلى غرفة الـنوم. وقفـت أمـام المـرآة. زوجته ما زالت في المطبخ تعد طعام

(34)

العشاء. أم نوسة في حجرتها القذرة ذات الضوء الخافت. مريضة. نوسة فرحة جدا. هو سيأتي فيما بين التاسعة والعاشرة مساءا، هو مشغول بتستيف الحجر وركنه، أما القلم المسمار فقد خبأه تحت الصخرة. يعرف أن نوسة بانتظاره. تناول طعام العشاء في سرعة، وبعدما فرغ من تناول طعام العشاء انصرف إلى الحمام. استحم ثم خرج قاصدا غرفة النوم ليغير ملابسه. قالت له زوجته وهو يغادر المنزل: لا تسهر كثيرا على القهوة؟ وكأنها تنصحه أو تغريه بليلة ممتعة. أكد لها انه سيحاول. حاضر. سأحاول.

  وصل بيت نوسة في موعده. فتحت له الباب لتعبّط فيه. فرقعات القبل كانت مدوية. أكلته. سألها: تأخرت عليك؟ لا. أبدا. جئت في وقتك. وجدا نفسيهما في قلب الصالة، فتراجعت نوسة إلى الخلف ثلاث خطوات لتحكم غلق باب الدار، ثم عادت ليجلسا على الحصير والتكايات. حسبتك لن تأتى الليلة. معقول!؟ لا. أنا مواعيدي مضبوطة مثل الساعة، ثم دار بينهما حديث ناعم وهمس لفترة. نهضت لتقدم له عصير الفراولة بالموز. تذوقه: الله. فسألته بدلال: عجبك. بصراحة أنت أجمل وأحلى يا أغلى نوسة في الدنيا. كافأته بقبلة طويلة. بحبك وأموت فيك. دوختني يا ابن الايه، ثم وقفت لتقدم له رقصة الفراشة الناعمة. صفق لها وهو يقوم إليها ليحتويها بين ذراعيه ويمطرها بالقبل. عمل عريس وهى عملت عروسة. جرّته إلى غرفة النوم.

  هو لا يعرف متى ستنتهي الإجراءات، ولكنه يعرف اليوم الذي لن يذهب فيه إلى الإدارة.، توطدت علاقته بالموظف. كل شويه شاي وسجاير وحاجة صاقعة. هل ما زالت المساـفة بعيدة؟ سـأل

  (35)

   نفسه. عليه أن يعبر تلك البركة اللعينة. خوّض. انعاص طينة. هو يريد أن يبكى. واضح انه بحاجة ماسة إلى البكاء. تذكر والده. بكى بحرقة.. ضحك. علىّ الطلاق بالتلاته لو م روحت الكتاب لأكون حاشش رقبتك بالمنجل. يا ليت. تريحني وتريح نفسك. طلاق على طلاقك ما أنا رايح الكتاب ولا خطيه حتى لو وتدنى المركز. ح أخلى المأمور يحبسك. ضحك. سأله: يعنى أنت عايز إيه؟ أروح المدرسة. خلاص. روح. يا رب تنفع. روح في ستين داهية. والده لا يعرف الحقيقة. أمه تعرف. ولكنها لا تتكلم. عندما يتحول المكان إلى معتقل. والفترة إلى فترة اعتقال. فلا نلوم الناس على التمرد.. عندما سأله المعلم عن 3×3 تساوى كام يا حبيبى. راح هو يسأل نفسه: لماذا تساوى تسعة؟ لماذا لا تساوى عشرة أو تسعة ونصف؟! فاستغرق مدة طويلة في التفكير. فظنه المعلم يتعمد إضاعة الوقت لعدم المعرفة فسخر منه. عمرك ما انت نافع. اقعد يا حيلة امك. انفجر التلاميذ بالضحك عليه. الله يخرب بيت الكتاب على بيت المدرسة. الفلقة والزخمة في الكتاب، والسخرية والاستهزاء في المدرسة!!

   عبر البركة وعليه الآن أن يعبر الجسر. كان حافي القدمين. يحمل مخلاته على ظهره. المخلاة معلقة بنبوت قصير على كتفه، هو الآن يسير على الجسر محنيا. تكاد أرنبة انفه تلامس الأرض. يسير مثل بعير  يعرف طريقه إلى الحقل. طيّر حفنة من تراب في الهواء. عرف اتجاه الريح. انحرف يمينا. سار بمحاذاة النهر. توقف. حط المخلاة على الشاطئ. تطلع إلى الماء. قفز في النهر. قبض على سمكة ثم خرج ليشويها.

  (36)

   أنا طلبت الطلاق من جوزي. الله يخرب بيتك ع الصبح. لما؟! لماذا تطلبين الطلاق من زوجك يا أستاذة فكيهة؟ أنت زعلت؟! أمسك بطنه وراح يتلوى مثل سمكة على النار. تألم بشدة. فكيهة ارتبكت. أسرعت بنقله إلى المستشفى، قالت لزوجته بصيغة توجيه الاتهام: أنت أكلتيه طبيخ ع الصبح!!؟ يا شيخه حرام عليك. حرام كده، أهو جاء له مغص. فردت عليها زوجته بحنق تدفع التهمة عن نفسها: يا أستاذة نيّليه بستين نيلة. شوفي هو طفح فين واللا عند مين؟ نهار اسود مثل النيلة. هل علمت بزيارتي لنوسة بالأمس؟! فقرر أن يغادر المكان وبأقصى سرعة وقبل أن يأتي الطبيب.

  العصابة تطارد نوسة. لابد أن نتزوج. وكأنها تصدر أمرا أو قرارا لا يجوز الرجوع عنه أو المماطلة. قالت له ذلك. أنهم يطاردونني. رأيتهم بعيني من النافذة. كنت انشر الغسيل. ألا تريد أن تنقذني؟! وكأنها تحتمي به أو تتوسل إليه. القصير يدعى فتحي الساخى الشهير بزقلط.، أما الطويل فهو حسن خفاجى. على ما يبدو انه يتوقى أشعة الشمس. يرتدى نظارة سوداء كبيرة الحجم. واضح أن الخاتم بإصبعه من المسروقات، وقد اتخذا من مقهى عم محمد جنّح وكرا لهم، فرابضا يتربصان بها. سألها: والعمل يا نوسة؟ نحن مهددون جميعا. أنا وأنت وأمك. هز رأسه ثم طأطأ. غرق يُعمل فكره: آه. العصابة ستقتلها لا محالة خشية افتضاح أمرهم. أما المبلغ فيصعب استرداده. الفلوس في البنك باسم أمها. بعد أن تقتل العصابة نوسة. أتزوج أنا بأم نوسة. أليست أم نوسة هي أصل الحكاية؟! تذكر حضنها الدافئ والقبلات الحارة وقمصان النوم الملعلعة والكلوت الأحمر أبو وردة سوده. ستموت لأنها الآن مريضة. أنا الوريث الوحيد. آه. اجل أنا الوريث الوحيد. ارث الفلوس والدار وعمارة سيدي بشر. رفع رأسـه ليستفسر: لماذا لا تبلغين البوليس يا نوسة؟ وأروح أنا في ستين

(37)

داهية. قلت في النيابة أنني لا اعرف أحدا ولا اتهم أحدا. والعمل؟ نتزوج ونهرب من هنا، وأمك المريضة؟ أمي صحتها أحسن من صحتك ومن صحتي الآن.

  السمكة نضجت. جد في إطفاء النار. اخذ السمكة. وضعها إلى جواره ريثما تبرد فيلتهمها. هو جائع. هو الآن  ينتظر ورجليه تلعب في ماء النهر. القطة غافلته. خطفت السمكة وجرت. نزع رجليه من الماء. أدار ظهره إلى النهر وقرر صعود الجبل. أحس بشوكة تسللت إلى قدمه فقعد يعالجها ثم قام ليواصل سيره باتجاه الجبل. الشمس حارقة والرمال ساخنة. قدماه انشوت. نوسة تشجعه وتحثه على أن يجد في السير. وصلا. هو لا يعرف اسم الجبل. سأل نوسة، ثم قال لها: جبل الهمالايا. ما رايك؟ التسمية خاطئة. ولكنها يا حبيبتي مناسبة. آه. مناسبة. صعد الجبل. هبت عاصفة فطيرته ليسقط فوق نوسة. بططها. نوسة تتألم. هو يشكو: زوجتي مثل الاحتلال البريطاني. الدار استولت عليها وكتبتها باسمها مثلما فعل الإسرائيليون تماما بأرض فلسطين. استولت على كل أموالى تحت شعار الأولاد ونفقاتهم. أنا الآن محتل يا نوسة. هل أنا العراق يا نوسة؟ هل أنا فلسطين؟ لا بد أن أتخلص من زوجتي. فرحت نوسة. نوسة الآن تضحك. تنظر إليه بإعجاب. تقبله في وجنتيه. نوسة تنتظر المساء.   

   سأل الموظف ليطمئن بعد أن ناوله سيجارة: هل تعتقد أن الإجراءات ستطول؟ مجرد أن ينتهي المراجع من عملية المطابقة. لا تقلق. سأل نفسه: هل سيدخل بستالوزى الجنة؟ لم تصل فكيهة إلى حل مرض مع زوجها. هي تريد الطلاق بأي ثمن. لازم تطلقني. والأولاد يا فكيهة؟ نقسّموهم. فكيهة عندها ثلاثة أولاد. ولـدين وبنت، والعـدل بين الـزوجين مطلوب. الموظف ينظر إليه

(38)

وهو ينفث سيجارته الرابعة وبرأسه ألف علامة تعجب، والحسرة تتملك قلبه وتعصره: خسارت عقلك يا أستاذ حسّان. لا حول ولا قوة إلا بالله، نهض عن الدكة متوجها إلى مكتبه وهو لم يزل يحوقل.

   كل شيء قابل للكسر حتى رقبة الإنسان، فهل يقدر الشيخ عبد الرحمن الزاوى على كسر العادات والتقاليد بالنجع؟ هل يقدر؟ قالت له زوجته بهيجة هانم: إيه رأيك في نعيمة بنت خالي محمود؟ مال وجمال وحسب ونسب. دمها تقيل يا بهيجة. فغضبت.

  كان أول شرط لها الكمبيوتر والتليفزيون الملون. طلباتك أوامر يا بنت الأصول. أما أمها حكمت هانم فسألتها: أنت يا ليلان ح تقدري تعيشي في الصعيد؟! فقال الشيخ عبد الرحمن الزاوى بلهجة الاعتراض: هو الصعيد ماله يا ست الحاجة؟!! لا أبدا ما اقصدش يا شيخ عبد الرحمن. اقصد إن كانت تتحمل العيشة واللا لا.. بلهجة التحدي قالت ليلان:  طبعا يا ماما.

  لم يعد للأثاث القديم أي اثر.. استغرقت عملية تجديد الفيلا عاما بأكمله وثلاثة أشهر وبضعة أيام تحت إشراف مارلين التي قامت بدور المصمم والمشرف العام على التنفيذ. أما السيد عبد الرحمن الزاوى فقام بدور الممول على أكمل وجه، أما أيمن فقد قام بدور المتفرج. في لحظات/ ظروف معينة علينا أن نجلس في مقاعد المتفرجين، ولا مانع أبدا أن نجلس في الصفوف الأمامية، علنا نظفر بشيء ريثما تسنح بذلك ظروف أخرى فنحصل على كل شيء تذروه الرياح.

 (39)

   حكت لها أمها عن تلك الظروف التي عاشوها عقب هروبها ووفاة والدها السيد فضل الله. قالت لها بكثير من حزن وشعور بالمرارة: أنا يا ليلان مضطرة أسامحك لأنك بنتي الوحيدة. فقالت ليلان: وبدل الناس ما تتكلم ويسألوا أنا هربت ليه؟! لهجتها تنم عن أشياء عظيمة تسيء إلى السمعة والشرف. الأم تعرف أن سبب الوفاة ليس هرب ليلان، ولكن السبب الحقيقي هو هاجس الخوف عليها والذي تملك زوجها السيد فضل الله وهو يرى تلك التوابيت التي تحمل جثث الغرقى في البحر المتوسط،  وصورة هند شهيدة العبارة وتلك الجموع الغفيرة التي كانت تشيعها إلى مثواها الأخير، وكذلك تلك الثروة التي ستؤول الي الأغراب إذا ما تزوجت ليلان من غير مختار ابن خالتها وابن شقيقه عبد السلام..

  كانت زيارة الشيخ عبد الرحمن الزاوى إلى البلدة شبراخيت فرصة جيدة ليتعرف على الكثير من أهلها والذين هم أصلا منحدرون من وجه قبلي خاصة من قنا. حمدون الصعيدي وعبد الحي الدالي والشيخ سلامة العبسى إمام وخطيب المسجد، وغيرهم كثيرين، وقد خص الثلاثة بالمبيت عندهم الثلاث ليالي التي مكثها بالبلدة. على ما يبدو أن صلة قرابة قريبة بينه وبين السيد حمدون الصعيدي، ولذلك نراه قد تولى عملية تعريفه بالآخرين، وغالبا ما كان يمضى جل وقته عنده في داره بالمعيصرة، أو اصطحابه إلى مقهى عم شبل على النيل. في اليوم الرابع غادر البلدة على أن تعود ليلان إلى النجع بصحبة من تريد من أهلها وأقاربها، ورغم اعتراض أمها إلا أن السيد حمدون الصعيدي قد أقنعها بأهمية ذلك، وضربوا للزيارة موعدا.   

  (40)

   المراجع الآن يقوم بعملية المراجعة والمطابقة ليطمئن إلى سلامة البيانات المكتوبة. المراجع يراجع البيانات بدقة. المراجع يشعل سيجارة. يرتشف القهوة من الفنجان ليضفي على عمله الكثير من الجدية والوقار. المراجع يتصبب عرقا. المراجع يجفف وجهه ورقبته بالمنديل ليزيل العرق. أم نوسة تصلى الظهر في الصالة. العصابة تطارد نوسة. النظارة السوداء تلمع في الشمس. هو التقى الرجل. نفس الرجل الذي رسم له دائرة في الهواء بعصاته الساحرة السوداء. كان بحاجة إلى شربة ماء. تطلع إلى الزجاجة في يده. ناوله الزجاجة. أفرغها في جوفه. شعر بسعادة تغمره. راح يتطوح: علىّ الطلاق من مراتى بنت ستين كلب أنا اجدع راجل في العالم ده كله. هي السكة منين يا راجل يا جلف؟ فعاد الرجل ليرسم له الدائرة في الهواء بعصاته السوداء. نوسة دفعته بقوة فتدحرج من فوق الجبل ليسقط في النهر. سأل النهر: هل تعرف فكيهة؟ النهر همس بأذنه. هز رأسه ثم ابتسم. هل قال له النهر نكتة؟! جلس على الشاطئ يبكى وينتحب. نوسة واقفة بالباب. هي تأمل عودته. سألت نفسها: هل سيقتل زوجته؟ ولما لا يطلقها؟ أليس ذلك أفضل؟ آه. لو أنجب منه طفلا أو طفلة. سأفاتحه في الموضوع. لن أمل. أريدك أن تضع لي حدا. ليس من المعقول أن تستمر علاقتنا هكذا. أنا عندي فلوس كتير. عندي عماره في إسكندرية. هذا البيت الذي تجلس فيه الآن سيصبح قريبا ملكي. معلوم. معلوم. اعرف ذلك جيدا، ولكن العصابة يا نوسة!؟ لقد شاهدت الرجلين بنفسي. الطويل ذو النظارة السوداء والخاتم المميز وكذلك القصير. كانا على القهوة بالأمس. أسرعت نوسة إلى الداخل. عادت مسرعة وبيدها مسدسا. طوحت به في فضاء الصالة التي لا تزيد مساحتها عن ستة أمتار مربعة وهى تتـوعـد صـارخة فـي وجـهه: يـوم أن اشـعر بالـخطـر الحـقيقـي فسأضربهم بالنار. هرب وسط التكايات يحتمي بها. اصفرّ وجهه.

 (41)

أحس بروحه تسلب منه عنوة. تتتتممممالللكى يييا نننوسة. السلاح يطول. نوسة لا تحب الرجل الجبان. أتفهم ذلك؟ نوسة عندما تقول فهي تنفذ. أنا نوسة. أنا نوسة.

  المراجع طلب مروحة أخرى، فنهض يحملها عن العامل. هو يريد أن يشاهد المراجع شخصيا. يريد أن يسأله. يريد أن يطمئن. زوجته تريد أن تشترى  لوازم العروسة. العريس متعجل والوقت يمر. هل يدرك المراجع خطورة الموقف؟ الملف ضخم. المستندات بداخله بحجم الأيام التي اشتغلها. هو يحاول أن يتذكر. الدكة ليست مريحة أبدا. عموده الفقري بدأ يعل عليه. كثيرا ما يتململ في جلسته. الساعة دهر يمر. فكيهة رفسته في رجله وهى في طريقها إلى وحدة الحسابات. فكيهة مشغولة بالمبلغ الذي وعدها به المدير لتكملة ديكورات المسرح. أي. حاسبي. الله يخرب بيتك. هل طلقها زوجها؟ تبعها بناظريه حتى توارت. عادت نوسة إلى الداخل لتدس المسدس تحت المرتبة من جهة الوسادة. زوجته في المطبخ. هي تعمل بجد لتغير طريقتها في إعداد الطعام. أشعلت البوتاجاز. راحت تقلى الطعمية. طلبت من بنتها العروس أن تغسل الفجل والجرجير جيدا. نوسة أخرجته من النهر ثم نشرته في الشمس ليجف من بلله. جلست إلى جواره. هي الآن تواسيه. هي وقفت. هي أحضرت القلم المسمار وكأنها تأمره، فراح يدق على الحجر. الإنسان دوما يفكر ولكن عقله لا يسعفه. هل يكون العقل عقبة في سبيل تحقيق طموحات الإنسان؟ فيأتي بالمعجزات أو يرتكب أفدح الأخطاء ويقترف الآثام، هل فكيهة محقة في طلب الطلاق من زوجها؟ هل نوسة محقة في طلب الزواج منه؟ هل هي محقة في سرقة الأموال من العصابة؟ هل الأمم المتحدة محقة فـي موقفها من فـلسطين؟ هـل كـانت انجـلترا مـحقة في احتلالها

(42)

لمصر؟ لا شك أن فكيهة قد أنهت الإجراءات الخاصة بتجهيز المسرح؛ لأنها عادت مبتسمة. أنت لسه قاعد؟! أيوه. جلست إلى جواره على الدكة. سألها : طلقك؟ لسه. رائحة العطر الذي تستخدمينه رائعة جدا يا فكيهة. يا لك من امرأة جميلة. فشكرته بلكنة فرنسية: marci ثم سألته: هل لديك نص مسرحي مناسب لأعياد الثورة؟ فكيهة شخصية مرحة محبة للحياة. تجيد الرقص والغناء. تميزها ملامحها المتناسقة ووجهها البشوش وبشرتها السمراء وشعرها الطويل الأسود. خفيفة الظل. رشيقة. تعرّف إليها السيد حسان الفلاح في حفل عيد الثورة الواحد والأربعين، إذ كان هو يقدم للحفل وإلقاء كلمة الترحيب بالضيوف. حسان الفلاح يرجع إليه فضل اختيارها كموجهة مسرح.. فكيهة تدرك أن حسان الفلاح شخصية مثيرة للجدل، ولذلك نجدها كثيرا ما تتندر عليه دون حرج منه، وذلك من باب الدلال، فهي تحترمه جدا وتثق به. كثيرا ما تشكو سوء معاملة زوجها لها وبخله وتجاهله لها أو خلة التعالي عليها.. يا ساتر. الله يخرب بيت دا راجل. اذا كان ربنا يخده وارتاح منه.. 

 عندما فاتحته في موضوع رغبتها في الطلاق من زوجها، لم تكن تقصد قبولها الزواج منه، اذ كانت ترغب في التحدث إليه من باب الفضفضة، كما أنها عادة ما تحب الجلوس إليه والتحدث معه كشخصية مسلية تتميز باللباقة والادعاء، وفى ذات الوقت فهو يوحى بالاحترام خاصة عندما يشرع في الحديث، فهو يجمع بين ثلاث خصال: الجهل وحلو الكلام وحسن المنطق في عرض الموضوعات، ومن عادته انه يتكلم بجدية بالغة عن أحداث لم تحدث، وينقل باهتمام أخبارا لم تحدث ولم تقع. فعندما كانت فكيهة تتحدث عن بودلير ومدى إمكانية الاستفادة بشعره في احد مســرحياتها، قـال لهـا: ولمـاذا لا تخـرجين مسـرحيته الشهيرة؟

(43)

بودلير يعد من مؤسسي المسرح الحديث، وكادت أن تسأله عن اسم المسرحية لولا ثقتها بنفسها. ضحكت بسخرية مغلفة بالجد والاستحسان. والنبى!!؟ ما كنتش أعرف.

  الباب انفتح. المراجع خرج. لمحها. لمح فكيهة. قال لها بابتسامة لا تنم عن شيء: خليه يطول باله علينا شوية يا أستاذة فكيهة. ثم سألها عن أخبار المسرحية الجديدة. وقبل أن تجيبه أسرع قاصدا دورة المياه. 

  

  العصابة تطارد نوسة. العصابة لابد أن تتخلص منها وتسترد الأموال. الواجب يحتم عليه أن يطارد العصابة بمسدس نوسة الذى سرقته من زوجها عقب وفاته. هو عزم التخلص من الطويل ثم من القصير. هو الآن يقص عليها حكاية اللص الذي سرق الكلام من درج مكتبه في الإدارة. فتحت الدرج يا نوسة. وجدت الأوراق والمستندات سليمة كما تركتها بالأمس. الأوراق بيضاء ناصعة. لا كلمة فيها ولا حرف يوحد الله. بحثت عن الكلام في كل مكان. لم أجده. لم أجده يا نوسة. لاحظت أن زميلي الأستاذ رجب قد أسرع بالاستئذان. المدير أذن له. هرب. لاذ بالفرار وضاع الكلام. هو الآن عائد من صحراء سيبيريا. البرد قارص. درجة الحرارة 10 تحت الصفر. اشتعلت المظاهرات في وسط إفريقيا. هل يقتضى العدل إعادة توزيع درجات الحرارة؟!! فكيهة يفوح العتر منها. 

   نوسة مشغولة بالقلم المسمار تدبب سنه. فرد الحجر على الأرض. ناولته نوسة المسمار. راح يدق: كان يعرف سبب استدعاء العمدة له، فالعمدة لا يستدعيه إلا إذا كان واقعا في مصيبة كبيرة. خير يا جناب العمدة؟! أنت عارف الولد فتوح ابن سـلامـه؟ هـو فيـه حـد مـا يعـرفش ابن نعيمة الهبله!؟ ولد أهبل.

(44)

لسانه زالف. عايزك بكرة تكون متاويه. الصبح تلاقيه حتت في حنك الكلاب. أبو دومة لا يعرف السبب. البنت فطومة حامل، الولد فتوح سلامة لن يسكت. سيفضحنا. نوسة شعرت بغثيان وقرف: إيه اللي أنت بتهببه ده؟!! العمدة شخصية مستهلكة. صرخ فيها: أنا لن اقتل العمدة يا نوسة. لن اقتله. منك لله. أنت قتلت الشاب المسكين وتركت العمدة يبرطع ويهييص مع النسوان. أنت حمار لا تفهم. نوسة قامت. نوسة غاضبة جدا.

  لبست مارلين الفستان الأبيض. أبدعت نسمة في تزيينها، لتقضى ليلة من أجمل ليالي البلدة. أقاموا الفرح والزينة في الساحة الشعبية. تزوجت مارلين. التليفزيون. الكمبيوتر. الدش. اللاب توب. السيارة ماركة دايو2008 والحصان جاكى، وسرت في النجع كله شائعة ترددت بقوة: أيمن بن عبد الرحمن الزاوى تزوج بالخادمة عشيقة والده عبد الرحمن الزاوى .

   على ما يبدو أنهم كانوا بحاجة إلى قطعة نار بحجم سكان الأرض لإحراق أمة. اشتعلت خالته ميمونة. هي الآن زرقاء. كانت منذ وقت قليل بيضاء بلون الشمع ثم اصفرت ثم احمرت إلى أن ازرقت. هو هرب. طلع يجرى بالمشوار. قفز برعب عظيم. نزل على الأرض. أنهبد في قمة جبل. الصخرة حطمته. دشدشت دماغه. صرخاته مدوية. نقلوه إلى المستشفى. أسعفوه بسرعة. دلقوا في جوفه خمسة جرادل بيرة وأربعة بوظة ثم ثلاثة ويسكي. هو الآن يشعر بتحسن. في المستشفى خاطوه جيدا. نوسة تجلس الآن تواسيه: تحمّل. يا نوسة أنا الآن مكسر. مدشدش. مدغدغ. أنا مليون حتة يا نوسة. قبل أن آتى إلى الدنيا يا نوسة كنت قطعة واحدة. الآن لي رأس يا نوسة ولى ساقان ولى ذراعان. لي رقبة يا نوسـة. أنا يا نوسـة امتـلأت حفـرا. عينـاي حفرة. فمي حفرة.

(45)

دبري  حفرة. شيء الناتئ من اثر الارتطام يا نوسة. أصابعي. أنا مكسر يا نوسة. أنت محظوظة جدا يا نوسة.

   رفع كفيه إلى السماء ضارعا. يدعو ويبتهل: يا رب. يا رب. اجعل حجرة المراجع حفرة من رياض الجنة. يا رب خفف عنه العذاب. يا رب أنت وحدك اعلم بالشدة التي هو فيها. خفف عنه يا رب. يا مسهل يا رب. خرج المراجع من حجرته قاصدا المصلى. يلحق صلاة الظهر. عندما تقرر أن تبكى، فلا تخجل من دموعك علك تعثر يوما على صانع المناديل. هو الآن بحاجة إلى البكاء. تذكر أمه. انهمر الدمع من عينيه. آه يا أمي. آه يا أمي. نوسة لم تفلح في تجفيف دموعه هذه المرة. 

  عندما تصعد إلى قمة الجبل فتذكر جيدا أن الجبل على الأرض. هو الآن يبحث عن نوسة. ينادى بأعلى صوته: القلم المسمار يا نوسة. القلم يا نوسة. نوسة الآن تصعد الجبل لتلحق به ملبية النداء. الجبل مغلف بالسكون والظلام.  هو ينظر. هو يتعجب. هو يسأل نفسه: أين رأيتها؟! ناولته الزجاجة. فضحك. ناولته الثانية، فأخذ يرقص على رأسها. نوسة تصرخ.

  ارتكن بظهره إلى الحائط. الدكة أبدا ليست مريحة. يضغط الحائط بظهره يريد أن يزحزحه أو يهدمه يتخلص منه. تذكر شيئا هاما. أشعل سيجارة وراح ينفث. مال برأسه إلى الخلف. أنخبط. لمح اللافتة المثبتة أعلى باب حجرة وكيل الإدارة: لا تضايق زميلك. التدخين ممنوع قطعيا. تذكر زوجته. هل ما تزال في المطبخ؟ ليس متأكدا. هات القلم المسمار يا نوسة.

   ثبت النظارة على عينيه. بحلق. آه. أجل. فرد ثالث!؟ كم أنت معذورة يا نوسة. قال لنوسة: أنا رأيت اليوم الرجل الثالث الذي انضـم إلى أفـراد العصـابة  مـؤخـرا. طويل جدا. عريض. منظره

(46)

يخوّف. عيناه مستديرتان. يرتدى بنطلون رصاصي وقميص بني وسويتر جلد اسود لامع. بشرته سمراء. شعره كثيف مجعد. ذقنه محلوقة. على ما يبدو أن شاربه قد سرق منه. هو يصف لها الساكن الجديد عند أم محمد. بتوكيد قالت له نوسة: وأنا كذلك قد رأيته.

   حبيه يا بنت الكلب يا وسخة، وإلا نموت من الجوع. أعمل اكتر من كده إيه؟ أم نوسة مرعوبة من الأيام. كيف حال أمك يا نوسة؟ بخير. نفسي أشوفها. أوحشتني كثيرا. لا داعي. 

  الموظفون انتهوا من صلاة الظهر. المراجع عاد إلى مكتبه. هو وقف انتباه لتحيته، ثم راح يدعو له بالتوفيق. المراجع خفض من سرعة المروحة. المراجع طلب حاجة صاقعة. أسرع في تلبية طلبه. المراجع فرك كفيه. أشعل سيجارة. ذهب إلى العالم الآخر. يريد أن يطمئن على خالته ميمونة.

  هو لا يعرف لماذا سأله المراجع هذا السؤال: أنت اسمك إيه بالكامل؟ رباعي؟ نعم رباعي. رغم انه كر اسمه رباعيا إلا أن المراجع شخر له. هل السفالة من ضرورات الحياة؟ أما الرجل فقد راح يرسم له دائرة في الفراغ بعصاته الساحرة السوداء.

  حط المخلاة على صخرة ناتئة في الجبل، أما النبوت فغرسه في الأرض المنبسطة. هو عائد لتوه من صحراء سيبيريا. سيستريح لبعض الوقت. بدت له بقعة خضراء عن بعد. فرد طوله على الرمال، أما نوسة فمشغولة الآن. تستعد للقاء المساء. لو أدركنا جهلنا وقدرنا لانفتح باب الرحمة والحب في قلوبنا. هل كان الدكتور مصطفى محمود يقصده؟!

  (47)

   أين الكفتة والمبروم يا امرأة؟!! على إيه يا حسرة!!؟ اللحظة التي يتصور فيها الإنسان أنه قد كسب كل شيء هي ذات اللحظة التي يخسر فيها كل شيء. فرت من عينيه دمعة. الحجر تلوث. كتب رسالة إلى الحكومة. الحكومة خفضت راتبه. 

   جرس باب المراجع رن. العامل أحضر له زجاجة مياه مثلجة. عندما تريد أن تكسب قلب امرأة فعليك أن تتصرف بحكمة، وأيضا عندما تريد التخلص منها.

  كل يوم غدا وعشا وفطور فول وفلافل وجبنه قريش وعدس وبصارة بالملوخية الناشفة. 

   هو الآن يسير على الرمال بمشقة وتعب. المخلاة على ظهره والنبوت معلق فوق كتفه. عندما تخطئ فلا تعتذر؛ لأنك ستمضى عمرك كله في الاعتذارات. نصيحة يعمل بها سكان العالم.

  هو الآن يحفر حفرة بطوله وبعرضه. فرغ من عملية الحفر. تمدد في الحفرة. هال التراب عليه. ردم الحفرة جيدا. هو الآن يصعد إلى السماء ليقدم التماسا بتخفيف العذاب.   

  الشائعة تتردد بقوة: أيمن الزاوى تزوج بالخادمة عشيقة والده عبد الرحمن الزاوى. الصبْية في حارات النجع يطبلون ويهللون. هل تفلح خطة السيد حمدان أبو الروس عميد عائلة قناوي؟؟

   لابد أن تضع حدا لتلك المهزلة. العصابة مع كل يوم تزيد واحدا. والعمل؟ لا بد أن نكون منطقيون في طلباتنا الغير عادلة، أو عادلون في طلباتنا الغير منطقية.

  (48) 

    فكيهة طلقها زوجها السيد عبد الواحد جاد الله. رحلت إلى الإسكندرية. هو لا يعرف أين كانت نوسة طيلة الأسبوع الماضي؟ وقف ليستقبلها باحترام ومودة.. قالت له: العقبى لك.

   عادت مارلين إلى البلدة شبراخيت، ثم التحقت بالإدارة منذ أسبوع لتعمل كموظفة إدخال بيانات في الحاسب وتشرف عليه.

    المراجع الآن في دورة المياه.

   ليلان. الحكومة أبدا لا تتصرف بحكمة؛ لأنها أحالتني إلى المعاش في الوقت الغير مناسب.